حكومات الهرم المقلوب

هرم الحياة السياسية في الأردن مقلوب؛ فالأصل سنداً للدستور الأردني أن رئيس الحكومة يمثل أغلبية برلمانية أو يمثل تحالف أغلبية برلمانية، والأصل أيضاً أن تلك الأغلبية وصلت إلى البرلمان بأصوات الشعب بناء على برنامج عملي مدروس، طُرح على الناس في انتخابات حرة نزيهة سنداً لقانون انتخاب تمثيلي يقوم على أساس قوائم حزبية لأحزاب برامجية فاعلة. وهذه الوصفة اسمها باختصار حكومة برلمانية. وفي ظل هذه الوصفة، فإن المعارضة أيضاً يكون لديها برنامج بديل تعارض به الحكومة، وتشكل ما يعرف عالمياً بحكومة الظل.اضافة اعلان
أيضاً اختيار الوزراء في الحكومة البرلمانية لا يكون اجتهاداً شخصياً للرئيس، ولكنه اختيارٌ بين شخصيات لديها برنامج واهتمام وخبرة في مجال عمل وزاراتها، وفي أغلب الأحيان تكون قد عملت أو تعمل في قطاع اختصاص تلك الوزارة عملياً أو نظرياً أو كليهما، وبهذا يكون الفريق الوزاري منسجماً مع بعضه من حيث التوافق مسبقاً على رؤيته لبرنامج الحكومة وطريقة عملها.
غياب الديمقراطية لعقود طويلة في الأردن وعودتها غير الواثقة، خلقا حالة سياسية ملتبسة، فرئيس الحكومة لا يأتي ضمن أغلبية برلمانية، وعند التصويت على بيان الحكومة يقع النائب في ورطة، وحيث إن في روع النائب رأي قاعدته الانتخابية التي لا تثق بالحكومات، فإن جميع النواب أو أغلبهم يبدأ بمناقشة البيان الوزاري وهو يميل للحجب وليس لمنح الثقة، فإن هو قرر منح الثقة يجهد في البحث عن مبررات لتلك الثقة؛ مثل "أعطيهم فرصة" أو أنه يمنحها تحت تأثير الحصول على مكاسب شخصية أو مناطقية.
هذه الحالة الملتبسة تجعل من منح الثقة أو حجبها عبثاً سياسياً، ذلك أن من يمنح الثقة إنما يمنحها على أمل التغيير والإصلاح فقط، وهو أمل لا يمكن أن يملك عليه دليلاً علمياً حقيقياً، كما أن حجب الثقة أيضاً يبدو عبثاً مضاعفاً، ذلك أن الحاجب لا يملك بديلاً متكاملاً ولا برنامجاً بديلاً للحكومة التي يحجب الثقة عنها، أما الامتناع فهو دفن للرأس في الرمال.
في مناقشة النواب لبيان الحكومة استوقفتني كلمة النائب نبيل غيشان، الذي تصالح مع الأمل ومنح الرئيس ثقةً مقابل قيودٍ ومطالب سياسية واقتصادية، ثقة مشروطة بحسن الأداء وبعدم تجديد تأجير أرض الباقورة، كما استوقفتني كلمة النائب ديمة طهبوب التي قدمت جردة حساب اقتصادية وسياسية، قد لا يكون فيها جديد ولكنها وضعت الحكومة بوضوح رصين أمام التحديات التي تواجهها، وهي فعلاً تحديات جسام، ومع أن مداخلتها بينت أن تلك التحديات عابرة للحكومات وليست من عمل الرئيس الجديد، فإنها كما يبدو متجهة وحزبها للحجب.
الخروج من هذا الوضع السياسي الملتبس ولتعديل الهرم المقلوب، لا بد لنا من الذهاب للحكومة البرلمانية وللدولة المدنية الديمقراطية، ديمقراطية كاملة الدسم، ولو كنتُ نائباً اليوم لمنحت الثقة في الجانب السياسي على أساسٍ من مطلبٍ سياسي محدد؛ وهو مطالبة الرئيس بتقديم خطة عمل للوصول للحكومة البرلمانية بما يقتضيه من مراجعة شاملةٍ للمعوقات التي تعترض ذلك مثل: قانون الانتخاب وقانون الأحزاب وقانون الاجتماعات العامة، إضافةً لمراجعة شاملة لجميع القوانين التي تضمن حريات وحقوق الأردنيين كما كفلها الدستور والمواثيق الدولية، عندها لا يهم أن يكون عنوان هذه الخطة "عقد اجتماعي" أو "مشروع نهضوي وطني" أو حتى "ميثاق وطني" فجميعها تسمياتٌ تؤدي إلى عنوان واضح، وهو تطبيق الدستور وإعادة المؤسسات الدستورية لممارسة دورها الحقيقي كما نص عليه الدستور.
منح الثقة أو حجبها حق دستوري، ويجب أن لا يثاب المانح ولا أن يعاقب الحاجب، فكلاهما يمارس قناعته في خدمة وطنه، ولكن في الحقيقة استغرب أن لا ينحاز النواب إلى الأمل، وإلى فرصة حقيقية للتغيير مع رئيس نثق بنزاهته وإيمانه بقيم التنوير والمعاصرة والديمقراطية، خصوصا أن هذا الرئيس أثبت في وزارة التربية أنه شخصٌ موضوعي وغير إقصائي لأي جهةٍ كانت، وأعترف أن ذلك كان مزعجاً للبعض! ننتظر من أغلب النواب وخاصة ممن أمطرونا بالمطالبة بالتنوير أن يكونوا معه، وليتذكر المتنورون مع من ستحشر أصواتهم عند إعلان النتائج، فالاصطفاف العام في آخر الأمر موقف يسجل عليك جنابك.