رأي في حياتنا

حين قلتُ خذوني!

ولا مرَّة كذبتُ. لكنني أضطرُّ دائماً لأبدو صادقاً، بأنْ أملأ أطراف كلامي الكثير بالقسَمْ؛ فاعتدتُ في مستهلِّ الحديث، لما يكونُ المستمعُ سوياً، بمعدَّل الشكِّ الطبيعي الذي أقرَّه “الجرجانيّ” في زمن اليقين، أنْ أقسم بأيمان رفيعة: يكفي مرور لفظ الجلالة كالطيف على لساني قبل الفعل الصادق الذي أنوي تأكيده، وإنْ فرَّت ابتسامة مكتملة من فمي الناقص، باتَ عليَّ أنْ أتبعها بأيمان غليظة من مقطعين “ورب الكعبة”، مع ارتفاع بحدَّة في الصوت، على أن يقترب قليلاً من البكاء، لما يكونُ المستمع غير سوي، مبالغاً بتطبيق اعتقاد “ديكارت” بأنَّ “الإنسان ينبغي أنْ يشك ولو مرة واحدة في حياته”؛ هي تلك المرة الأولى التي كذبتُ فيها!
ربما تزامن ذلك مع زواجي، واضطراري لابتكار أعذارٍ مقنعة لغيابي المتكرر عن المنزل. أول مرة أقسمتُ لزوجتي بـ”الحبِّ الذي كان”؛ فهان كل شيء بعد ذلك: “العِشرة”، و”الخبز والملح والسكر”، أو ربَّما قبل ذلك بكثيرٍ، في المدرسة، لما كنتُ أذكر أمام أستاذ اللغة العربية “روح المتنبي” بعينين مغرورقتين حتى يصدِّقَ أنَّ حمَّى بها حياء زارتني ليلة الامتحان، فمنعتني من حفظ عشرة أبيات من معلقة “طرفة بن العبد”، أو ربَّما بعد ذلك بكثير، لما صار لي نساء كثيرات يكذِّبنني إنْ قلتُ لواحدة دون الأخريات: “أحبُّكِ”، ولا أتبعها بقسم مؤثر بـ”رحمة سعاد حسني”، متبوعاً بـ”رحمة عبد الحليم حافظ”؛ من دون أن أضطرَّ لتغليظ القسم بذكر “رحمة نزار قباني”!
أقسَمْتُ بـ”المَدْنى” البعيد عن السماء، وبـ”المصنع” المهجور في أرضنا البور، وبأولادي الذين أشكُّ بإنجابهم في “الأيام الجاية”، بأنني “لن أخون وطني”، وسأدافع عن سمائه كما أرضه، وأفتديه بـ”الروح الخارجة عن إرادتي”، وبـ”الدم الفقير الذي لا ينقذ مصاباً بحادث سير”. وجرت أكثر من معركة خاسرة في غيابي، أفضت إلى حرب مركزية خسرناها بالوكالة أثناء تغيُّبي، حتى “عملية السلام” لم تتكلل بـ”النجاح”، رغم أنني ذهبتُ بباقة ورد إلى نصْب للجنديِّ الشهيد، وشاركتُ مع جموع الغاضبين القسم على الثأر لدمه، ثمَّ لبَّيْتُ نداء العمل بعقد من عشر سنوات، قابلة للتمديد، على ساحل الخليج الثائر!
ولا مرَّةً صدقت، حتى صرتُ معروفاً بالأيمان الخفيفة، التي لو قلتُ وراءها إن الماء يتجمَّد، لما صدَّقني “ذو العقل”. ثمّ مات جدي الذي أحبُّ، في الوقت الضروري الذي كنتُ أحتاج فيه أن أكونَ “صادقاً مصدَّقاً”، فصار يميني “ورحمة سيدي”، يمكنني من الزعم أنَّ الجماد يصير ماء، وبالغتُ في الإسراف بالأيمان إذا اقتضت الضرورة أو لم تقتضها، فكذبتُ حتى مات أبي، فتجنّبْتُ أن أزجَّ به في أيماني، لكنَّ المستمع، من مستوى الشك الأول، كان يطالبني باليمين الصعب، ليطمئنَّ إلى روايتي، يدفعني إليه، فاستصعب الأمر أكثر، يزداد شكاً، حتى إذا ما أقسمتُ: “ورحمة أبوي”، استراح، ولم أسترح، وإنْ “قضي الأمر الذي فيه تسفتيان”.
ولا مرة صدقت حتى عندما كنتُ أحلف بـ”رحمة ياسر عرفات” و”جمال عبد الناصر”، وذكرى “6 أكتوبر”، فقد كان في كلامي دائماً “مس من الشيطان”، فعندما أقسمت يمين النصر، كنتُ مهزوماً، ولما أقسمتُ بالحبِّ كانت البغضاء حلوة على لساني، مُرَّةً في صدري. “كان ينبغي أنْ أصدقَ ولو مرة في حياتي”، لكنَّني أصبحت في نظركم القصير، مريباً، وحين قلتُ ما أريد، ثمَّ قلتُ خذوني، كانت المرة الوحيدة التي صدقتُ فيها!

 

[jetpack-related-posts][/jetpack-related-posts]
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock