حين يغيب بائع الفستق عن وسط البلد

لله در الأيام كم تطوينا، كأننا إلى نصب نفيض، سنوات تمر كلمح البصر وربما أسرع من ذلك. قبل أيام خسرت عمان القديمة، التي تربض على تخوم سقف السيل وتتربع على عرشه المجيد سبيل الحوريات، وقد أذوت جدرانه عاديات الزمن وعوادم السيارات، خسرت بائع الفستق العتيق "أبو احمد".

اضافة اعلان

 على طريق الحج والتاريخ تربض عمان القديمة. وعلى طريق المدن العشر تجدد روحها بالآمّين لها من شتى الملل والنحل هي هكذا، وربما كانت منذ الأزل من يدري لعل خبايا التاريخ تبوح عن سرها وتقول كيف كانت قصتها، أول من أمس رحل بائع الفستق الممزوج بسمرة النيجيري عمر محمد حمزة النيروبي "أبو احمد" عن  ثمانين خريفا أو قل ربيعا واقل صيفا أو قل السنة بأسرها.

كان يقف الإفريقي "عمر" أمام سدر الفستق والبزر الأبيض والأسود الممزوج بنكهة افريقية حارة تحرك اللسان قسرا وتدعو الفم إلى التلمظ من نكهتها.

بخشب "السحاحير" يشعل النار تحت سدره العتيد والمدخنة يتلوى منها الدخان يخرج كجنّ صغير في فضاء محدود أكلت مساحته قوة مال أصحاب سوق الذهب، يقف أبو احمد حدا فاصلا على الدرج  بين رواد مقهى كوكب الشرق وأغلبهم  من الإفريقيين أيضا، وبين من يريدون أن يُزيّنوا زناد الصبايا الحسان بالحُلي، وهن المقبلات على أعراسهن ربما على خفر.

كنا ندلف إلى فستق أبو احمد، كلما سنحت الفرصة لنا للولوج إلى داخل البلد، وخصوصا عندما يأتي المساء ونجوم الليل تنصب، نتنعم بفضاء رحب على الرغم من شدة الزحام، وإلى الان لا اعرف مكانا أخر يدعى عمان في مخيلتي سوى وسط البلد، التي كنت أجيء إليها من الجنوب البعيد مع والدي، وبقيت تلك صورة عمان ولم استسغ صورة غيرها.

أصابعه التي أكلتها نار التنور، ووجهه الموسّم بأوسام افريقية، "بربع دينار فستق وبزر أبيض وأسود يا أبو احمد".

ونستغل فرصة الوزن المحدودة، نلتقط حبات من الفستق والبزر، قبل أن نأخذ ما دفعنا ثمنا له. يتمتم أبو احمد، ونحن أيضا نتمتم بخياراتنا المحدودة بين مقهى السنترال أو الجامعة العربية. وإذا سمحت الموازنة، التي لا تسمح في اغلب الأحيان، فغلى مطعم الأوبرج أو مطعم أبو أحمد.  ننسل إلى خياراتنا المحدودة، وتمتماته ما تزال عصية على الفهم عندما يرمي إليك الكيس الورقي بعد أن كال بمكياله الصغير.

أبو احمد لم يعبأ بكل "ماكينات" التحميص الجديدة التي تنتج مئات الأضعاف مما ينتج، وبقي وفيا لمكانه في شارع الملك فيصل، يقف حاجبا على مدخل سوق الذهب، يقف منتصب القامة خلف بسطته الصغيرة، التي دارت عندها حكايات كثيرة.

ذلك قدره، وربما كان يرى أن الثبات في المكان يعطي وعيا أكبر لفهم حركة الزمن المتسارع، وربما وربما وربما.

على روحك السلام أيها الإفريقي العَمّاني.

[email protected]