خارج علبة السردين

قبل ثلاثين عاماً، ربّما أقل ولي أكثر، كانت محاولة فتح علبة "سردين" تعرّضني للإحراج والتعرُّق. الآن بعد أقل من ستمائة عام على فتح القسطنطينية، أخجل من تذكّر تلك اللحظات المُعيبة التي كنتُ أثقبُ فيها حوافّ المعدن الأصفر الرخيص. كانت تبتلُّ أصابعي الناعمة بالزيت العنيد، وتعلقُ فيها أشواك ناعمة، مزعجة، وحين أفلحُ بخلع سقف العلبة الملعونة بأداة مخصّصة للبناء الثقيل، أكون قد أصبتُ بجرحين قطعيين في البنصر وباطن الكف. تسقط ثلاث أسماك هزيلة من فصيلة الرنجة في الصحن، فأفكِّرُ أنّه كم كان أجدى لو كنتُ صياداً.اضافة اعلان
عشرة أعوام فتحتُ فيها أوراق الصحف اليومية من الخلف، وتعرّفتُ إلى طرق كانت حينها "حديثة" و"مبتكرة" لفتح علب اللحوم المصنّعة، ووصلتُ من خلالها إلى خرائط الكنز ذات الرموز المعقدة في ألعاب الفقراء. فتحتُ كتاب القراءة وحفظت حكمة قليل الفائدة لزهير بن أبي سلمى، وفتحتُ صندوقاً كان أبي الطيّب يخبّئ فيه أحزاناً مكتوبة، ورسالة محفوفة بالأحمر والأزرق مغلقة بلُعاب مُرٍّ. بلغتُ منتصف باب البيت الحديدي، عندما مات أبي مصادفة، ولم أعد بعد ذلك اليتم بحاجة لأصعدَ فوق كرسيّ لتناول المفتاح الصدئ، فقد صار بإمكاني أنْ أخرج لشراء الخبز، والبحث عن عمل، وفتح المندل! 
فيما بعد فتحتُ أبواباً كثيرة، كانت تتداعى كأنّها لعبة يابانيّة مصممة للأمل. لم تعد علب الطعام المحفوظ أو المهدرج عصيّة، أيضاً واصلتُ المسير خلف الأبواب، ولمّا مضت عشرة أعوام أخرى، كنتُ قد فتحتُ ثلاثة أرصدة بنكيّة متباعدة. صار لي بيت له باب زجاجي، وثلاجة لها بابٌ طيّع، فيها علب مياه غازية سهلة الفتح، وفي البيت أيضاً نافذة كانت تطل على شجر وفتيات وثمر. فتحتُ كتب الشعر الكلاسيكيِّ، وباب المسجّلة، وكيس الملابس المستوردة، فتحتُ كل الحظوظ والقلوب والحدود، ليس دهاء منّي، ربّما لأنّ أمي رافقتني بالدعاء، فقد كنتُ أجدُ مفتاحاً كلّما رفعتُ سجّادة!    
الآن بعد أقل من ستمائة عام على فتح القسطنطينية، لم يبق باب مغلقٌ في وجهي، كأنّ كلّ الأبواب أمامي تحرّكها كهرباء ذكيّة، تنتظر اقتراب خطواتي الزاهدة حتى تُفتَح كالطاعة العمياء. وصلتُ النهاية أو ما قبلها بألف خطوة، وليس في نفسي اليومَ أيّ دهشة: المطارات بلكناتها كلها ترحّبُ بي، والقطارات الخالية من الدخان تلوّح لي وتستجدي صعودي في الوقوف المتكرّر، نساء كثيرات أمسكن بيدي حتى نهاية الدرج، ودولة منحتني بطاقات دسمة للصرف غير المحدود. وصلتُ حدوداً جنوبية وشمالية، حتى صار العالم ضيِّقا كعلبة سردين سهلة الفتح، ولا فضول لي وراء أيّ باب، سوى ستار رقيق يحجبُ الغيب.