خطأ الاستسلام لمنطق جحا؟

قيل لجحا لقد شبّ في بلدكم حريق، فرد بأنّ الأمر لا يعنيه إذا كان الحريق "خارج حارتنا"، ولما قيل له إن الحريق في حارته، قال، اذن، "المهم انه ليس في دارنا"، ولما قيل له إنّ الحريق في قلب داره، قال، الحمدلله، "فقد سلمت برأسي".

اضافة اعلان

يبدو أنّ هذا المنطق هو المسيطر في منطقتنا هذه الأيام: كل يسعى لسلامة رأسه ولا يعنيه ما يجري لغيره.

بعد الحرب التي دمرت العراق، والتي بدأت عواقبها تزحف على بقية ارجاء المنطقة، بأشكال مختلفة، منها الهجرات، وانتشار الطائفية، وتعمق التطرف، والارهاب، والعنف، وانعدام الامن والاستقرار، بعد ذلك تتردد التكهنات عن احتمال حرب جديدة ضد ايران، وتلك ستكون، إن وقعت كارثة مدمرة ستأتي من أرجاء هذه الأوطان: في فلسطين ولبنان والسودان واليمن والصومال. أما في بقية المواقع، التي لاتزال بعيدة عن مسارح العنف والمواجهات المكشوفة، فإنّ شيئا ما يجري بعيدا عن الأنظار.

لا ضمان من انفجارات جديدة هنا وهناك. فالمنطقة بأسرها تجثم فوق بركان تغلي حممه تحت الارض، وما الأزمات التي تتفجر بين الحين والآخر، في هذا المكان او ذاك، سوى بؤر التنفيس التي تختار عادة المواقع الضعيفة في قشرة الأرض التي تغلفها.

لم يكن خافيا على الكثيرين، حتى لا أقول إنه لم يكن خافيا على احد فأكون مبالغا، ان الحرب على العراق لم تكن مبررة، ولم تكن ضرورية، ولم تكن مأمونة العواقب، لقد وقف كثيرون ضدها، ولكن كثيرين ايضا، إما لاذوا بصمت العجز او بصمت القبول، في كل ارجاء العالم، وفي الامم المتحدة التي ان كانت قد نجحت في عدم إصدار ما يشرع الحرب قبل أن تبدأ، فإنها فشلت في الحفاظ على موقفها، فسارعت لإضفاء الشرعية على الحرب بعد ان وقعت، ودمرت وشردت، وقتلت الملايين ولا يزال سعيرها يحرق الاخضر قبل اليابس.

قبل أن تقع دولنا وقياداتنا في خطأ الاستسلام لمنطق جحا: لا يعنيني الأمر ما دمت لست المستهدف مباشرة، وقعت فيه دول العالم العظمى الاخرى، ولكن يبدو اننا جميعا لم نتعظ بعبر التاريخ ولا بدروس الماضي.

عندما كنا في هذه البلاد ضحايا الظلم، وتآمر العالم على حقوقنا واوطاننا، وعندما فتكت بنا الحروب والصراعات وعندما تخلى عنا القانون الدولي والدول العظمى، ظنا من الجميع أن الخطر والشر الذي ينبت هنا يبقى هنا، وأن كل من هو بعيد عنا هو في مأمن، عندما كان الامر كذلك، لم يأبه احد بإخماد النار وبوقف الاحتقان إلى ان بلغ كل ذلك ذروته.

لقد تفاقم اليأس وكبر وأخذ يزحف في كل اتجاه إلى أن وصل في النتيجة إلى الأماكن النائية التي ظنوا إنها بسبب بعدها في مأمن من اي خطر، أليس هذا هو الدرس الكبير الذي يجدر بنا ان نتعظ به، إن لم يكن على مستوى العالم فليس ذلك بمقدورنا، فليكن اذن على مستوى منطقتنا، فذلك ليس فقط بمقدورنا بل ومن صميم واجبنا.

لا يكفي أن نستكين لمنطق المعادلات البسيطة فنقع في شرك الخداع الذاتي، ونمضي وراء سراب الوهم والحلول السهلة إذا كانت هنالك قوى شريرة، وعقول خبيثة، تسعى الى تقسيم المنطقة على اسس دينية وطائفية، فهل نمضي مع منطق الانجرار وراء الصراعات الطائفية، ونشرع بالتالي للحروب الأهلية التي ستدمر المنطقة وشعوبها وحضارتها وتاريخها ومستقبلها وكل قيمها وانجازاتها.

ليس سراً أن لإيران طموحات سياسية كبيرة في العراق، او في لبنان، او في دول الجوار الخليجية، طموحات تتخذ لنفسها صيغا واشكالا مختلفة، وليس غريبا أن تتنبه الدول المعنية لذلك، ولكن طموحات توسع النفوذ، او التوسع الفعلي الحقيقي هي احدى ابرز سمات سياسات الدول عبر التاريخ. الفرق هو ان الدول تتوسع حيثما كان الفراغ، بينما تصطدم اية طموحات توسعية عندما تتوفر المناعة لدى الدول والشعوب، وهل ننكر ان الحرب على العراق قد احدثت فراغا سياسيا هائلا يشكل اغراء كبيرا لكل طامع؟ وهل ننكر ان الحرب هي التي مهدت للحروب الطائفية التي يستعر اوارها في العراق وتمتد الآن لبقية ارجاء المنطقة، والتي ستستمر لأجيال متلاحقة بعد انتهاء الحرب الفعلية؟!

وهل ننكر، ايضا، أن الذي أتاح الفرصة لدول متربصة لتتغلغل وتنفذ إلى العمق هو اليأس والحصار والظلم واستمرار العدوان، كما هو صمت العالم ونفاقه وغياب القانون الدولي وتعطيله، أليس من البديهي أن يكون تقديم البديل، لليائس الباحث عن اي يد تمتد اليه، هو الخيار الافضل عن ادانته وادانة من مدّ اليه العون؟

ما الذي يمنع، ونذر الشر تتفاقم، والازمات تتزايد، أن تتداول كل دول المنطقة في شؤونها، وتتصارح وتتكاشف وتضع كل اوراقها على الطاولة بحثا عما يخدم المصلحة المشتركة ويحقق الامن والاستقرار للجميع.

كلنا مستهدفون، ان لم يكن من قبل قوى اخرى تستهدفنا، فنتيجة لتفجر الازمات والاوضاع المتردية بسرعة كل يوم، امامنا خياران، إما الاستمرار في الاستسلام لسياسة جحا فنسقط الواحد تلو الآخر، وإما العمل المشترك للوقوف جميعا في وجه الانهيار المحتم وانقاذ المنطقة.

سفير الأردن السابق في الأمم المتحدة