خيار التعلم عن بعد وإدارة التحول

لا بد من الوقوف على التحديات التي تمخضت عن التجربة الراهنة للتعلم عن بعد، ومنها الفجوة الرقمية التي حرمت شريحة من الطلبة من الوصول إلى منصات التعلم أو التطبيقات المساندة للتعلم بسبب فقر الموارد والخدمات لتمركزهما في دوائر محددة تجعل من حق التعلم حقا مسلوباً للبعض. وعلى المعنيين الخروج الآن وبسرعة بخطة تعليمية تعويضية لهذه الشريحة لئلّا يُصادر حقهم في التعليم.

اضافة اعلان

بيد أنّ التعلم عن بعد قد يحمل في خباياه فرصة ذهبية إذا تم إدارة هذا الملف برويّة وحكمة ورؤية ناضجة وجدية في القرارات السياسية.

هذا وإنّ الوقوف على المفاصل التالية هو أمر أساسي.

أولا: العديد من التجارب السابقة في الإصلاح أو التغيير، والتي جوبهت بمقاومة وممانعة كبيرتين من عدة أطراف، يجب أن تحظى بمراجعة متأنية وتدرس بموضوعية من قبل الحكومة والمؤسسات المعنية للوقوف على أشكال المقاومة للإصلاح وفهم جوهرها ومسبباتها وطرق التعامل معها، دون أي تفريطٍ بموضوعية التقييم، أو تجميل أو اختزال، من أجل إتاحة فرص جديدة للتوافق وخلق حالة للإصلاح عابرة لكل أشكال الاختلاف والاستقطاب. وإشراك أصحاب العلاقة في رحلة الإصلاح وفي أجواء الأدوار التشاركية والتكاملية سيكفل حتما نجاحاً مجرداً من الشقاق والنزاع. فليس المفترض بالإصلاح أن يدخلنا في ساحات معارك قوامها التلاسن الشرس واغتيال الشخصية، بل يجب أن يكون إصلاحا حضاريا صحياً، يجلس كل المنخرطين فيه وبكل أطيافهم حول مائدة مستديرة مؤسسة على الحوار المستنير والنقاش الموضوعي والحجج الدامغة.

ثانيا: يجب التفكير مليّا في خيار التعلم عن بعد. هل سيكون خيارا إستراتيجيا مرنا وذكيا ليتقاطع بحنكة وبحبكة متينة مع الوزارات المعنية والقطاعات التي هي كفيلة بإضفاء الجودة والنوعية على هذا التعلم؟ هل يكون هذا الخيار خيارا مساندا للتعليم الصفي، يثريه أو يدمج فيه أو يتقاطع معه؟ أم هل نريده تعليماً إلكترونياً كاملاً في العديد من أبعاده؟

وهل سيكون خياراً في حال مؤسسات التعليم العالي، يترك لكل جامعة تحديد شكل وتفاصيل التعلم الذي تريد، بناء على المعايير والتعليمات الناظمة للتعلم الإلكتروني أو المدمج، على أن تصاغ هذه المعايير بمرونة واحتراف؟ الأصل أن يكون الأمر كذلك حفاظاً على مبدأ استقلالية الجامعات من ناحية، وعلى الدور التشريعي العام والتحفيزي والرقابي الحضاري لمجالس وهيئات الحاكمية، الحاكمية بمفهومها المحترف.

بصراحة نحن بغنى عن المجالس الرقابية السلطوية التقليدية التي قتلت كل أشكال الإبداع والفكر الإستراتيجي الريادي. ما تحتاجه المؤسسات التعليمية ليس ناطورا يديرها ولكن مفكرا وقائدا ورياديا ملماً بالمستجدات العالمية والممارسات الفضلى. فتصنيف الجامعات وامتحانات الكفاءة والاعتماد ليست وحدها كفيلة بخلق حالة التميز التي ننشد. ما يجوّد أداء المؤسسات هو إيمان كل من هو داخل هذه المنظومة بدوره الجاد القائم على مبدأ هندسة التغيير والمؤسس على الرؤى الثاقبة والآفاق الواسعة.

ثالثا: لا غنى عن تقييم وتحليل جاهزية البنى التحتية والبنى التشريعية والمفاهيمية والمعرفية والبنى التقنية، بحيث تساهم كلها في دعم التوجهات الجديدة في التعلم، وخاصة بعد الخوض في هذه التجربة التي أثرت تجاربنا وصقلت قدراتنا ووسعت آفاقنا، رغم- أم هل نقول بسبب- تحدياتها الجمة؟ ولا بد من التأكيد هنا على جاهزية الأقطاب الثلاثة للعملية التعليمية/التعلّميّة، طلبةً وأعضاء هيئة تدريسية وآباء وأمهات.

وهذا يقودنا بالضرورة للنقطة الرابعة: التفكير في هندسة الممارسات الفضلى وإدارتها بهدف البحث عن رافعة تُمكّن الثالوث البشري المعني بالعملية التعليمية من الانخراط بثقة وفاعلية في منهجيات التعلم الجديدة وتقنياته ومصادره وأشكاله، مسانداً كان أم مدمجاً أم إلكترونياً كاملاً.

خامسا: ترميم الثقة وتعزيزها، وأحياناً بناؤها من الصفر، بين جميع أصحاب العلاقة في العملية التعليمية والشركاء المباشرين وغير المباشرين.

قد تكون هناك نزعة للتمترس حول الماضي ولمقاومة أي تحديث؛ وهذا له أسبابه. واحد من أسبابه أننا لغاية اللحظة إما نشكك في أو نغض البصر عن أهمية إدارة الاختلافات والتفاوض حولها والتوافق عليها في نهاية المطاف. فليس صحيا أن يقزم الوطن وتختزل أحلامه، لتكون بحجم طموحات ومصالح شخصية، فالوطن أكبر من الجميع.