خير البلية!

نحن شعب يستكثر على نفسه الفرح. ولدينا مثل شعبي ينطق بهذه الحقيقة، ويردده الكثيرون بقناعة و"جدية" مضحكة؛ فما إن يسري الأنس في أوصال جلسة، وينتشر الضحك، حتى يبادر أحدهم بالتنبه إلى الخطر الجسيم المحدق، ومن ثم يقوم بالإعلان للجالسين: "الله يكفينا شر هالضحك"!اضافة اعلان
أجل، ويلقى الأمر تجاوبا مباشرا، وانقطاعا مفاجئا للضحك، وتقلصا محزنا للعضلات، وكأن القائل الذي استل سيف المثل البائس من جراب أحزانهم، كأنه يذكّرهم فعلا بأنه ما من مرة ضحكوا فيها إلا تبعتها مصيبة من نوع ما، فينظرون في وجوه بعضهم معتذرين عن فرحهم الزائد!
بالمناسبة، نجد فارقا في هذه "الثقافة" بيننا وبين الشعب المصري العظيم، الذي لم أعثر عنده على مثل يقابل هذا المثل أو يشابهه، بل إنهم يناقضون ذلك بمثل صريح معروف ضارب في الثقافة الشعبية، يقول "إضحك للدنيا تضحك لك"!
والحقيقة أن الأمثال العربية راحت إلى ما راح إليه المصريون على نحو ما؛ فالمثل "شر البلية ما يضحك" يلفت إلى أن الضحك قد يقع حتى في موضع شر أو مكروه، في دليل تاريخي إضافي على أننا نصر على المخالفة والتمسك بـ"النكد" ونتمسك بالضحك بمقدار.
انطلت الحيلة بأن "الفرح كثير علينا" على مخيلتنا الإبداعية؛ وظلت أغانينا تشي بأحزان صحراوية بعيدة. فلدينا أغنية من صميم تراثي عتيق يخاطب عاشق فيها والد محبوبته قائلا: "يا عمي انطيني بنتك واجعل الله خذاها! وع الجنة ما ني رايح ع النار أنا ويّاها"! أجل إلى هذا الحد!
فلا العاشق في "الأغنية" على مقدار من الثقة في نفسه بأن تحيا معه محبوبته بسعادة، ولا هو على درجة من الأمل و"الإيمان" بالآخرة فيرجو الذهاب إلى الجنة مثلا؛ لا بل ولا هو قادر على وعد أو إقناع والدها بأنه سيهبها حياة جميلة وفضلى؛ مختصرا مصير الحب بهذه الأمنيات والنهايات البائسة!
وبنظرة سريعة على جلّ الدراما الكوميدية لدينا، ندرك إلى أي حد بتنا فقراء في طرح "نكتة أردنية"، وكيف صار على الممثل أن يدّعي العته والبلاهة لكي يضحك "منه" الأطفال فقط، وأنه على الممثل أن يتحدث بفم معوجّ لا يظهر منه الكلام إلا بصعوبة، لينتزع الابتسام!
ولا يدري "الكوميديون" ربما إلى هذا الوقت كم من الأسى يثيرون في نفوسنا، وهم يظهرون مجتمعنا بائسا، فقير الخيال وفقير الفضاء إلى هذا المستوى، حتى إنهم باتوا ينافسون الكوميديا الخليجية التي تتجلى أقصى حالة إضحاك فيها بأن يصفع الممثل ابنه وهو يأكل!
مفاجأة يعني!
هناك كثيرون بين ظهرانينا يروّجون أمثالا بائسة على أنها أحاديث نبوية شريفة؛ والأصل أنها  مقولات رصينة لمربين تتعلق بآداب الحديث وتأديب الفتيان. ويعلن هؤلاء أيضا أن الله لا ينظر إلى قوم يضحكون، أو أن القلب الذي يضحك كثيرا يموت، في مخالفة صريحة منهم لحقيقة الدين والعلم.
مئات الأبحاث العلمية والدراسات والتجارب في الغرب أثبتت أن الضحك يقوي عضلات القلب، ويمنح الوجه نضارة وألقا، ويقوي الذاكرة، ويحفز المرء على العمل. وهو ما تثبته التجارب العملية التي تقول إن "المكشرين" لا يمكن أن ينتجوا عملا متقنا وإبداعيا، مهما لووا سحناتهم وأوغلوا في الجدية غير المبررة.  علينا الاتفاق على مثل جديد نطلقه منذ اليوم -وبفم غير ذي عوج - يقول "الله يكفينا شر هالكشرة".. أليس هذا هو المنطق!

[email protected]