خيوط المؤامرة لا تعمد بالدم

ثمة أصوات ترتفع منذ انعتاق الثورة في تونس وحتى الساعة، ترمي ثبات الشعوب العربية ضد أنظمة الاستبداد في سلة الخيبة، وتدّعي أنها مجرد خيوط دقيقة لمؤامرة كبيرة على الوطن العربي، وأنها الجزء الثاني، ربما، من مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي كنا نسمع بتفاصيل ذات أبعاد أسطورية لما سينجم عنه، من تقسيمات كاريكاتورية للوطن العربي.  اضافة اعلان
منتجو مشروع الشرق الأوسط الجديد، هم أولئك الذين ألقوا بكل ثقلهم لإطلاق "مشروع العولمة"، الذي بدأت تداعيات تهشمه تظهر في العقد الأخير، منبئة بزوال كل التفاعلات التي أنتجها كمشروع، وهو بالمناسبة أكثر تفصيلا ودقة من مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي كان مجرد مقترح لإعادة ترتيب المنطقة العربية (بما فيها إسرائيل)، على غرار دول شرق أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
الشرق الأوسط الجديد والعولمة، قفزا من سفينة التغييرات العولمية، لأن واقع الحال الغربي أضحى سورياليا، وقراءته تتطلب جهدا مضنيا لمعرفة ما ينخر في بنيته السياسية والاقتصادية، التي نرى بعض أطرافها المصابة بالغرغرينا في نشرات الأخبار. إذ ليس العرب وحدهم من أصيبوا بانقطاع أقدامهم، بل الغرب أيضا. هنا وجه جديد للعالم لا ترسمه القوى، ولا تستطيع أن تتحكم به، ليس لعجزها عن ذلك فقط، بل لأن العالم يتشارك كله في الحاجة إلى بعضه.
المهم في السياق كله، أن يصوب النظر في المنطقة العربية إلى ما هو أبعد من التنويه إلى أن خروج ملايين العرب للشوارع مطالبين بأن يكونوا بشرا على الأقل، مسكون بمؤامرة صهيونية غربية أميركية.
فالعرب ومنذ فجر استقلالاتهم عن الغرب، وهم يحلمون بالحرية، بيد أن المسافة التي ذهبوا فيها حينذاك للحرية، زجتهم في أتون عواصف الاستبداد الجديد، ذاك الذي اتكأ على حالة الإنهاك التي عاشتها الشعوب جراء نضالاتها ضد الاستعمار، لتسترخي في استبداد من أمسكوا بزمامها.
اليوم الصورة اختلفت. ثمة الكثير مما يؤكد حقيقة أن العربي لم يعد قادرا على احتمال وطأة الاستبداد، وأن حالة الإنهاك لم تعد مقبولة عند جيل عربي جديد، يؤمن بأن الحرية أعز من كل شيء، وأن ثمن استعادتها يعمده الدم، إذا احتاج الأمر إلى ذلك، لأنه تلمس طعم الحرية في ما هو مفتوح له من آفاق على العالم.
الآلاف الذين يسقطون شهداء في ميادين وساحات وشوارع الحرية العربية، لا يمسكون بخيوط المؤامرة التي يحوكها غرب أو صهيونية، بل على العكس، إذا ما قرأنا المظاهر الخارجية للتظاهرات والاعتصامات العربية، سنشاهد ما يناقض ذلك، إشارات ورموزا وأقوالا ورؤى، الكل يحتفي بقومية ثورته، والكل ينظر نحو فلسطين، والكل ينظر إلى الغرب بهدوء، ليس خوفا بل لأن الصراع مع الاستبداد أشد وقعا من أن تفرغ شحنات هذا الصراع مع الغرب حاليا.
وحتى لو افترضنا أن ثمة من يمكن أن يجد روابط وخيوطا، تتوجه إلى ربط تضحيات الثوار العرب بالغرب والصهيونية، فإنه يكون دخيلا على المشهد، لأن الشعوب التي تثور على الاستبداد وتعلن ساعة الحرية، تعرف كيف تحافظ عليها، ولا تضيعها.