دروس نظرية من سورية

عندما بدأت الأحداث في سورية، كتبتُ في الغد تحليلاً لمستقبل الصراع المتوقع هناك، بناء على نظرية العالم اللبناني الأصل إدوارد عازر (1938- 1991)، الأستاذ في جامعة ستانفورد الأميركية، وتعرف باسم نظرية الصراع المتطاول. وهذا الأسبوع، نشر في موقع مجلة فورين أفيرز، تحليل يقول إنّ صراع  سورية، نموذج للحروب الأهلية ما بعد 11/ سبتمبر (أيلول) التي لا يمكن أن تنتهي بالمفاوضات. ولكن يمكن بالإضافة لهذه الدروس التنظيرية، التنبه لمسألة وخطورة وعواقب قبول فكرة الحرب بالوكالة، أو الاعتماد المبالغ به على رعاية دولة خارجية. اضافة اعلان
بحسب نظرية عازر، يمكن الاستنتاج أنّ حرباً أهلية في مجتمع متعدد الإثنيات والطوائف، غالباً ما ستتطور إذا لم تحسم سريعاً في اتجاهات شبه معروفة سلفاً، أولها، ظهور ظاهرة أمراء الحرب، أي المستفيدين سياسياً ومالياً من استمرار الحرب، والثاني الجريمة المنظمة باسم السياسة، وفي مقدمة ذلك عمليات الخطف مقابل فدية والاتجار بالغذاء والدواء ومنع أو سرقة المساعدات، أضف لذلك، هناك الحرب بالوكالة، أي أن دولا خارجية ستتدخل لأسباب جيوسياسية، وطائفية، واقتصادية، و..إلخ، وسيصبح هناك مليشيات كل منها تتبع دولة
أو أخرى. وقد حدث  كل هذا في سورية.
في تحليل فورين أفيرز السالف، الذي كتبته الباحثتان في جامعة جورج تاون، ليز مورجي هاورد والكساندرا ستارك، تريان أنّ تاريخ الحروب الأهلية، مر في العصر الحديث بثلاث مراحل، الأولى من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة، وكانت هذه الحروب تنتهي بانتصار طرف على آخر، والمرحلة الثانية، منذ سقوط جدار برلين 1989، وحتى اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، حيث كانت غالبا تنتهي بالتفاوض بسبب ضغط قوى عالمية، ثم عادت الحروب لتحسم لطرف دون آخر، دون تفاوض. وبناء على هذا تعتقد الباحثتان أنّ "الحرب الاهلية في سورية التي تبدو بلا نهاية، تعكس معالم البيئة الدولية الراهنة: تراجع ليبرالية الولايات المتحدة وحلفائها الذين لم يعودوا يهتمون بتسويات على أساس التفاوض، ويركزون على مكافحة الإرهاب، وهذا ما جعل القوى الخارجية (في سورية) تضع محاربة تنظيم داعش أولويةً لها، والعودة للتركيز على الاستقرار، ما جعل الولايات المتحدة، تقبل ضمنياً نظام الأسد السلطوي (أو من سيخلفه) باعتباره المنتصر النهائي وضامن الأمن". 
ما تركز عليه الباحثتان أنّ القوى الخارجية في البيئة الدولية الراهنة هي المؤثر في الحروب الأهلية، وأنّ أولويات القوى الكبرى في سورية لا تتعارض مع وجود نظام الأسد. وبحسب مقال آخر في المجلة، فإن إسرائيل تعمل مع روسيا لوضع خطوط حمراء هناك، تتعلق بإيران، أما نهاية وجود نظام الأسد فلا تبدو مطلوبة أو مُهمة إسرائيلياً. ولعل مما يمكن أن يدعم وجهة نظر الباحثتين أيضاً أنّ الدول العربية الخليجية، التي كانت تلعب دورا مؤثرا في الأحداث في سورية، مشغولة الآن بالخلافات بينها (الأزمة القطرية)، أو بقضايا داخلية، وتكاد تختفي من المشهد، ما قلل عدد وزخم القوى المهتمة بتغيير نظام الأسد.
ما يمكن إضافته، وبناؤه على تحليل الباحثتين، أنّ الثورات أو الحركات التي لا تدرك معنى القرار الوطني المستقل، وتعتمد كثيراً على قوى خارجية تضطر في النهاية للخضوع، أو تصاب بضعف شديد، وقد تنتهي، حتى إن لم تنتهِ الظروف الموضوعية، التي أدت لوجودها، أو التي قد تؤدي لتجدد قوى تحمل ذات الأهداف.
لو أريد الربط بين تحليل الباحثتين عن "البيئة العالمية الراهنة" والقضية الفلسطينية، فيمكن القول إنّ إصرار الفلسطينيين، خصوصاً في الماضي، على القرار الوطني  المستقل، حماهم وحمى حركتهم التحررية. لكن ربما الأهم مما يمكن بناؤه على تحليل الباحثتين، أن القوى الكبرى أقل ميلا للحلول التفاوضية الآن.
إذا سلمنا بتحليل الباحثتين، فإنّه مثلما سلمت الولايات المتحدة، ولو ضمنياً بانتصار نظام الأسد، (مع أن الإرادة الأميركية ليست قدراً بالضرورة)، فهي تشجع السياسات الاستيطانية والتهويدية الإٍسرائيلية لحسم الصراع دون تفاوض، والمفاوضات التي قد تجري هي فقط عملية ضغط لقبول الأمر الواقع مع بعض التجميل. وبالتالي على أي حركة تحرر أو إصلاح أن تدرك خطورة الاعتماد على قوى خارجية، كما عليها أن تتوقع دربا طويلا دون مجتمع دولي يفرض أو يدير التفاوض.