درويش: أرى أثري على حجر فأحسب أنه قمري وأنشد واقفا

درويش: أرى أثري على حجر فأحسب أنه قمري وأنشد واقفا
درويش: أرى أثري على حجر فأحسب أنه قمري وأنشد واقفا

صاحب "ورد أقل" يعاين النكبة في عمل شعري جديد

 

عمان ـ الغد- يعيد الشاعر العربي محمود درويش قراءة النكبة، في ستينيتها، بمستوى شعري جديد، عبر قصيدته "على محطة قطار سقط عن الخريطة " التي نشرت أخيرا.

اضافة اعلان

ويبتعد صاحب "ورد أقل" عن الأجواء النمطية التي تجسدت فيها النكبة في الكثير من الشعر العربي، حيث يذهب نحو أجواء إنسانية خالصة، تحتفي بالتفاصيل واللحظات التي لم تدون من قبل.

ودافع صاحب "سرير الغريبة" من قبل عن انزياحه نحو الشرط الإنساني في قصيدته وتقديمه للشرط الفني.

ويبدو تمسك درويش بالإنساني والخالد أكثر ملاءمة لخدمة قضية شعبه حين يحولها مادة أدبية واسعة التداول ليس في الوطن العربي، بل إلى العالم كله لما في تجربته، في السنوات العشرين الأخيرة تحديدا، من إعلاء لشأن الشعر أولا كقيمة جمالية، وثانيا كمعنى يقبل التأويل، ويبتعد عن القراءة أحادية الوجهة.

وكان الشاعر محمود درويش قد تناول النكبة في أكثر من عمل شعري، كان أقربها، وأكثرها شهرة ديوانه اللافت "لماذا تركتَ الحصان وحيدا؟"

لكنه روى الكثير منها، سيما ما يتقاطع مع الذات في كتابه "في حضرة الغياب"، وفيه قدم درويش محاكاة نثرية للشعر.

على محطة قطار سقط عن الخريطة

محمود درويش

عُشْبٌ، هواء يابس، شوك، وصبار

على سلك الحديد. هناك شكل الشيء

في عبثية اللاشكل يمضغ ظِلَّهُ...

عدم هناك موثق.. ومطوَّقٌ بنقيضه

ويمامتان تحلقان

على سقيفة غرفة مهجورة عند المحطةِ

والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكان

هناك ايضا سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتين

تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً

وهناك سائحةٌ تصوّر مشهدين:

الأوّلَ، الشمسَ التي افترشتْ سرير البحرِ

والثاني، خُلوَّ المقعدِ الخشبيِّ من كيس المسافرِ

(يضجر الذهب السماويُّ المنافقُ من صلابتهِ)

وقفتُ على المحطة.. لا لأنتظر القطارَ

ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليات شيء ما بعيدٍ،

بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ وانكسر المكانُ

كحجرة خزفية، ومتى ولدتُ وأين عشتُ،

وكيف هاجرتِ الطيورُ الى الجنوب او الشمال.

ألا تزال بقيتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ

على فساد الواقعيِّ؟ ألا تزال غزالتي حُبلى؟

(كبرنا. كم كبرنا، والطريق الى السماء طويلةٌ)

كان القطار يسير كالأفعى الوديعة من

بلاد الشام حتى مصر. كان صفيرُهُ

يخفي ثُغاءَ الماعزِ المبحوحَ عن نهم الذئاب.

كأنه وقت خرافي لتدريب الذئاب على صداقتنا.

وكان دخانه يعلو على نار القرى المتفتّحات

الطالعات من الطبيعة كالشجيراتِ.

(الحياةُ بداهةٌ. وبيوتنا كقلوبنا مفتوحةُ الأبواب)

كنا طيبين وسُذَّجاً. قلنا: البلادُ بلادُنا

قلبُ الخريطة لن يصاب بأيَّ داءٍ خارجيٍّ.

والسماء كريمة معنا، ولا نتكلم الفصحى معاً

إلا لماماً: في مواعيد الصلاة، وفي ليالي القَدْر.

حاضُرنا يسامرنا: معاً نحيا، وماضينا يُسلّينا:

اذا احتجتم إليّ رجعتُ. كنا طيبين وحالمين

فلم نر الغدَ يسرق الماضي.. طريدَتَهُ، ويرحلُ

(كان حاضرنا يُرَبِّي القمح واليقطين قبل هنيهة،

ويُرقِّصُ الوادي)

وقفتُ على المحطة في الغروب: ألا تزال

هنالك امرأتان في امرأة تُلَمِّعُ فَخْذَهَا بالبرق؟

أسطوريتان ـ عدوّتان ـ صديقتان، وتوأمان

على سطوح الريح. واحدةٌ تغازلني. وثانيةٌ

تقاتلني؟ وهل كَسَرَ الدمُ المسفوكُ سيفاً

واحداً لأقول: إنّ إلهتي الأولى معي؟

(صدَّقْتُ أغنيتي القديمةَ كي أكذّبَ واقعي)

كان القطار سفينةً بريةً ترسو.. وتحملنا

الى مدن الخيال الواقعية كلما احتجنا الى

اللعب البريء مع المصائر. للنوافذ في القطار

مكانةُ السحريِّ في العاديِّ: يركض كل شيء.

تركض الأشجار والأفكار والأمواج والأبراج

تركض خلفنا. وروائح الليمون تركض. والهواء

وسائر الاشياء تركض، والحنين الى بعيد

غامضٍ، والقلب يركضُ.

(كلُّ شيءٍ كان مختلفاً ومؤتلفاً)

وقفتُ على المحطة. كنت مهجوراً كغرفة حارس

الأوقات في تلك المحطة. كنتُ منهوباً يطل

على خزائنه ويسأل نفسه: هل كان ذاك

العقلُ / ذاك الكنزُ لي؟ هل كان هذا

اللازورديُّ المبلَّلُ بالرطوبة والندى الليليِّ لي؟

هل كنتُ في يوم من الأيام تلميذَ الفراشة

في الهشاشة والجسارة تارة، وزميلها في

الاستعارة تارة؟ هل كنت في يوم من الايام

لي؟ هل تمرض الذكرى معي وتُصابُ بالحُمَّى؟

(أرى أثري على حجر، فأحسب انه قَمَري

وأنشدُ واقفاً)

طللية اخرى وأُُهلك ذكرياتي في الوقوف

على المحطة. لا أحب الآن هذا العشب،

هذا اليابس المنسيّ، هذا اليائس العبثيَّ،

يكتب سيرة النسيان في هذا المكان الزئبقيِّ.

ولا أحب الأقحوان على قبور الأنبياء.

ولا أحب خلاص ذاتي بالمجاز، ولو أرادتني

الكمنجةُ ان اكون صدى لذاتي. لا احب سوى

الرجوع الى حياتي، كي تكون نهايتي سرديةً لبدايتي.

(كدويّ أجراسٍ، هنا انكسر الزمان)

وقفتُ في الستين من جرحي. وقفتُ على

المحطة، لا لأنتظر القطار ولا هتاف العائدين

من الجنوب الى السنابل، بل لأحفظ ساحل

الزيتون والليمون في تاريخ خارطتي. أهذا...

كل هذا للغياب وما تبقى من فُتات الغيب لي؟

هل مرَّ بي شبحي ولوّح من بعيد واختفى

وسألتُهُ: هل كلما ابتسم الغريبُ لنا وَحَيَّانا

ذبحنا للغريب غزالةً؟

(وقع الصدى مني ككوز صنوبرٍ)

لا شيء يرشدني الى نفسي سوى حدسي.

تبيض يمامتان شريدتان رسائلَ المنفى على كتفيَّ،

ثم تحلقان على ارتفاع شاحب. وتمرُّ سائحةٌ

وتسألني: أيمكن ان أصوّركَ احتراماً للحقيقة؟

قلت: ما المعنى؟ فقالت لي: أيمكن ان أصوّرك

امتدادا للطبيعةِ؟ قلت: يمكنُ.. كل شيء ممكنٌ.

فَعِمِي مساءً، واتركيني الآن كي أخلو الى

الموت.. ونفسي!

(للحقيقة، ههنا وجه وحيدٌ واحدٌ

ولذا.. سأنشد)

أنتَ أنتَ ولو خسرتَ. أنا وأنتَ اثنان

في الماضي، وفي الغد واحد. مَرَّ القطار

ولم نكن يَقِظَيْنِ، فانهض كاملاً متفائلاً،

لا تنتظر احداً سواك هنا. هنا سقط القطار

عن الخريطة عند منتصف الطريق الساحليِّ.

وشبَّت النيرانُ في قلب الخريطة، ثم اطفأها

الشتاء وقد تأخر. كم كبرنا كم كبرنا

قبل عودتنا الى أسمائنا الأولى:

(أقول لمن يراني عبر منظار على بُرْجِ الحراسة لا أراكَ، ولا أراكََ)

أرى مكاني كُلَّهُ حولي. أراني في المكان بكل

أعضائي وأسمائي. أرى شجر النخيل ينقّح

الفصحى من الأخطاء في لغتي. أرى عادات

زهر اللوز في تدريب أغنيتي على فرح

فجائيٍّ . أرى أثري وأتبعه. أرى ظلي

وأرفعه من الوادي بملقط شعر كنعانية

ثكلى. أرى ما لا يُرى من جاذبيةِ

ما يسيل من الجمال الكامل المتكامل الكُليِّ

في أبد التلال، ولا أرى قنّاصتي.

(ضيفاً على نفسي أحلُّ )

هناك موتى يوقدون النار حول قبورهم.

وهناك أحياءٌ يُعِدّون العشاء لضيفهم.

وهناك ما يكفي من الكلمات كي يعلو المجاز

على الوقائع. كلما اغتمَّ المكانُ أضاءه

قمر نُحاسيٌّ وَوَسَّعَهُ. انا ضيف على نفسي.

فتحرجني ضيافتها وتبهجني فأشرق بالكلام

وتشرق الكلمات بالدمع العصيّ. ويشرب الموتى

مع الأحياء نعناع الخلود، ولا يطيلون

الحديث عن القيامة

(لا قطار هناك، لا أحد سينتظر القطار)

بلادنا قَلْبُ الخريطة. قلبها المثقوبُ مثل القرش

في سوق الحديد. وآخر الركاب من إحدى

جهات الشام حتى مصر لم يرجع ليدفع اجرة

القناص عن عمل اضافيٍّ كما يتوقع الغرباء.

لم يرجع ولم يحمل شهادة موته وحياته معه

لكي يتبين الفقهاء في علم القيامة أين موقعه

من الفردوس. كم كنا ملائكة وحمقى حين

صدقنا البيارق والخيول، وحين آمنّا بأن جناح

نسر سوف يرفعنا الى الأعلى!

(سمائي فكرةٌ. والأرض منفايَ المُفَضَّلُ)

كلُّ ما في الأمر أني لا أصدق غير حدسي.

للبراهين الحوار المستحيلُ. لقصة التكوين

تأويلُ الفلاسفة الطويلُ. لفكرتي عن عالمي

خَلَلٌ يسبّبه الرحيل. لجرحي الأبديِّ محكمة

بلا قاض حياديٍّ. يقول لي القضاة المنهكون

من الحقيقة: كل ما في الامر أن حوادث

الطرقات أمرٌ شائع. سقط القطار عن

الخريطة واحترقتَ بجمرة الماضي. وهذا لم

يكن غزواً!

ولكني اقول: وكل ما في الأمر أني

لا اصدّق غير حدسي.

15/05/2008