دولة فلسطينية قابلة للحياة!!

  مصطلح "قابلة للحياة" (viable) هو ما استخدمه الرئيس الأميركي جورج بوش كوصف للدولة الفلسطينية، في خطاب له في الرابع من نيسان العام 2002: "دولة فلسطينية من الضروري أن تكون قابلة للحياة سياسيا واقتصاديا". وبعد حوالي شهرين من العام نفسه كرر الرئيس الأميركي هذا المفهوم مع تعديلات طفيفة: "من أجل الحصول على الأمن الذي تنشده إسرائيل من الضروري التوصل إلى دولة فلسطينية مستقرة ومسالمة. لهذا أطالب إسرائيل بأن تتخذ خطوات ملموسة لدعم نشوء دولة فلسطينية جديرة بالثقة وقابلة للحياة". ومنذ ذلك الحين أخذ مفهوم "دولة فلسطينية قابلة للحياة" يتكرر على أعلى المستويات، وأصبح يدل على هدف ينشده الجميع ومن بينهم الفلسطينيون، الذين يوجه إليهم الاتهام من حين إلى آخر بتعطيل تحقيقه، فيهددون بالتراجع عن هذا الوعد السخي!

اضافة اعلان

   لهذا يبدو مفهوم "دولة قابلة للحياة" وكأنه غاية المنى ... بالنسبة للفلسطينيين، رغم أن بوش كان قد أوضح في خطابه أن هذه الدولة ستكون مفيدة لإسرائيل أولا قبل الفلسطينيين. فكيف أصبحت هذه "الدولة" على المستوى الرسمي مطلبا فلسطينيا؟ وهل تحقق هذه الدولة فعلا مطالب الفلسطينيين؟ وماذا تقول اللغة التي استغلت لنحت مفهوم جديد وغريب أقل ما يقال فيه أنه يحمل في طياته شيئا من المراوغة؟ يفسر أحد قواميس أكسفورد الكلمة الإنجليزية المقابلة لـ "قابل للحياة" كما يلي: "يمتلك القدرة على الحياة أو الوجود، خاصة ضمن مكان أو مناخ محدد. بشكل خاص الجنين، الذي يمكنه الحياة لدى الولادة". ومعنى هذا الكلام أن المصطلح يتضمن تلقائيا عنصر الشك في تحقيق الغرض المنشود. بالإضافة إلى ذلك، وكما يشير القاموس ذاته، فإن المسألة لها علاقة أيضا بالمكان، الذي له خصوصيته ومناخه، ولا شيء يمكن أن يفي بهذه الشروط إلا "إسرائيل"، أو بمعنى آخر الحاضنة التي سينمو فيها هذا المخلوق الذي لا يوجد من يضمن له الحياة بشكل قاطع.

     وقد يتضمن استخدام مصطلح كهذا محاولة لتفادي تحديد طبيعة السيادة في الدولة الفلسطينية المزمع إنشاؤها، فلا أحد يتكلم عن "دولة مستقلة" أو "دولة ذات سيادة" أو شعب له حق تقرير مصيره، بالرغم من أن الأرض فلسطينية وأصحابها فلسطينيون. واليوم وحتى مع بدء الحديث عن الدولة الفلسطينية فإن المقصود هو كيان لا يتمتع بالسيادة والاستقلال، وهذا في النهاية ما ينطوي عليه مفهوم "دولة قابلة للحياة"، فمن ناحية هو يعبر عن عدم الالتزام تجاه الفلسطينيين، ومن ناحية أخرى فإن ما تبقى من هذا الوطن هو ناقص السيادة وتابع لإسرائيل. 

    ربما كان أفضل ما يساعدنا على تفهم طبيعة هذه "الدولة" هو مقارنتها بالدولة اليهودية، التي بدأ العمل على تأسيسها عمليا في الرابع والعشرين من تموز العام 1922 حين أقرت عصبة الأمم في جنيف "صك الانتداب"، الذي وضعه اللورد كورزون، وزير الخارجية البريطاني، وكان يساعده الأميركي اليهودي بن كوهين، وقد أرست بنود هذا الصك أسس ما أصبح يعرف فيما بعد بـ "دولة إسرائيل". فعبارات القرار وصياغته كلها تعلن بوضوح أن الهدف هو تأسيس دولة بكل مكونات السيادة، وإن كان الحديث يقتصر على "وطن قومي" لليهود. البند الثاني في "صك الانتداب" ينص على أن "تكون الدولة المنتدبة (بريطانيا) مسؤولة عن جعل البلاد (فلسطين) في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي".

    وتقول المادة الرابعة: "يعترف بهيئة يهودية لائقة كهيئة عمومية لتشير وتعاون في إدارة فلسطين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك مما يؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين، ..". وفي المادة الحادية عشرة نقرأ: "يجوز لإدارة البلاد أن تتفق مع الهيئة اليهودية المذكورة في المادة الرابعة على أن تجري أو تستثمر بشروط الإنصاف والعدل والمصالح والمنافع العمومية وترقي مرافق البلاد الطبيعية حيث لا تتولى الحكومة هذه الأمور بنفسها". وتقول المادة الثانية والعشرون: "تكون الإنجليزية والعربية والعبرانية اللغات الرسمية في فلسطين".

    النص لا يشير من قريب أو بعيد إلى وطن قومي عربي أو وطن قومي فلسطين أو حتى وطن يجمع "اليهود" والعرب. ولكن القرار يشير في المقدمة إلى "الشعب اليهودي" بقوله: "ولما كانت دول الحلفاء الرئيسية قد وافقت أيضا على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ التصريح الذي صرحت به حكومة جلالة ملك بريطانيا في 2 تشرين الثاني سنة 1917 وصادقت عليه الدول المذكورة بأن ينشأ في فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي ...". أيضا في المقدمة: "ولما كان في ذلك اعتراف بالصلة التاريخية التي تصل الشعب اليهودي بفلسطين والبواعث التي تبعث على إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد".

    وبالمقابل يشمل الفلسطينيون في المقدمة تحت "الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين"، أو مجرد "الطوائف" كما جاء في البند السادس: "على حكومة فلسطين مع كفالة عدم إلحاق الضرر بحقوق جميع الطوائف، أن تسهل هجرة اليهود إلى فلسطين في أحوال مناسبة ...". والقرار لا يعترف بـ "شعب فلسطيني" أو "عربي" فمن البداية ألغيت الهوية الفلسطينية أو العربية للسكان واختلقت مسبقا هوية مصطنعة لمجموعات دخيلة إلى البلاد. هكذا تصنع الدول!   

    توني بلير، رئيس الوزراء الحالي للدولة التي أوكلت إليها مهمة تأسيس ذلك "الوطن القومي" استخدم أثناء زيارته للأراضي المحتلة أواخر الشهر الماضي عبارة "دولة قابلة للحياة"، في الإشارة إلى الدولة التي ستقام في فلسطين، وتكلم عن مؤتمر الغرض منه "تأهيل الفلسطينيين للمشاركة في عملية السلام".

بصرف النظر عن الأهداف الحقيقية لهذا المؤتمر فقد تعرض هذا الاقتراح لانتقاد حاد من قبل أحمد قريع، رئيس الوزراء الفلسطيني، الذي قال: "نحن مؤهلون ونمتلك القدرات والإمكانات والخبرات للسلام والتفاوض وخضنا مفاوضات صعبة في ظروف حرجة ومقلقة".

    وأضاف: "نريد سلاما نستعيد به حقوقنا، القدس عاصمة لنا، عودة اللاجئين بناء على القرار 194 دولة ذات سيادة كاملة مثل أي دولة أخرى ذات حدود واضحة". نستطيع أن نفهم غضب أحمد قريع، لكن ما يستعصي على الفهم أن العالم الذي استطاع، في ربع قرن، العمل بنجاح على إنشاء دولة للشعب اليهودي من العدم على أرض الفلسطينيين يقف، لأكثر من نصف قرن، عاجزا عن إنشاء دولة فلسطينية تملك أهم مقومات الدولة، أي الشعب واللغة، وقبل كل شيء الأرض ... الفلسطينية بكل معنى الكلمة؟ 

    قبل أكثر من ثمانين سنة اعتمد صك الانتداب. وعبر السنين أصبحت "إسرائيل" دولة بكل معنى الكلمة لكن الدولة الفلسطينية ما زالت سرابا. ومنذ ذلك الحين لم يتغير شيء، التقدم الوحيد الحاصل هو تحول "الدولة الفلسطينية" إلى جنين قد يكون "قابلا للحياة" أو ربما يخرج إلى النور مسخا!