ديمقراطية السودان ومعضلة التغلب على التاريخ

figuur-i
figuur-i

أريج الحاج* - (معهد واشنطن) 28/7/2020

بعد الإطاحة بعمر البشير واستلام عبد الفتاح البرهان الحكم في 11 نيسان (أبريل) 2019، وضع ائتلاف المعارضة الرئيسي والمجلس العسكري الحاكم في السودان اللمسات الأخيرة على وثيقة تقاسم السلطة والتي من شأنها أن تمهد الطريق لبدء مرحلة انتقالية تؤدي إلى حكم مدني في البلاد. ومع ذلك، ما تزال الأدوات التي لطالما استخدمها البشير طوال فترة حكمه راسخة بعمق في النظام السياسي. وفى حين رحب السودانيين بوثيقة تقاسم السلطة، إلا أن هذا القبول تبعته جرعة قوية من الشك تتعلق بمدى نجاحها. ففي حين شكل ترسيخ اتفاقية تقاسم السلطة منعطفاً حرجاً في تاريخ السودان، إلا أنه يبقى أن نرى ما إذا كان سيكون كافياً لمواجهة البنية التحتية القوية والقمعية التي خلفها النظام القديم.
التوصل لاتفاق
وقع على الوثيقة كل من نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي محمد حمدان دقلو (حميديتي) كممثل للمجلس العسكري، وأحمد الربيع كممثل لتحالف "قوى الحرية والتغيير". وتمخض الاتفاق عن تشكيل حكومة جديدة ووضع الخطوط العريضة لتقاسم السلطة بهدف تسهيل انتقال سلس لمدة ثلاث سنوات، يتم بعدها إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
في الأثناء، أعلن الطرفان حل المجلس العسكري الذي حكم السودان منذ الإطاحة بالبشير وتشكيل مجلس مشترك يتألف من خمسة من العسكر وستة من المدنيين. ويترأس المجلس المشترك، المعروف أيضًا باسم المجلس السيادي الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، الرئيس السابق للمجلس العسكري الانتقالي. ومن بين الأعضاء المعيّنين المنتمين إلى المجلس العسكري الانتقالي، حمدتي وياسر عطا وإبراهيم جابر وشمس الدين كباشي.
أما الأعضاء الخمسة المعينون من المدنيين فيضمون حسن الشيخ إدريس قاضي، والصديق تاور كافي، ومحمد الفقي سليمان، ومحمد عثمان حسن التعايشي، وعائشة موسى سعيد. وقد توصل الجانبان إلى اتفاق بشأن العضو الحادي عشر، واختاروا رجاء نيكولا عبد المسيح، وهي قاضية مسيحية قبطية. كما اختارت قوى الحرية والتغيير الاقتصادي عبد الله حمدوك لتولي منصب رئيس الوزراء للفترة الانتقالية في البلاد. ويترأس رئيس الوزراء، حمدوك، الآن الحكومة الانتقالية المكونة من 18 عضواً والذين اختارهم من بين قائمة أعدتها قوى الحرية والتغيير. وتهدف عملية الاختيار إلى كبح سلطة العسكر ومحاربة الهياكل الفاسدة التي أنشأها النظام السابق.
ووفقًا لاتفاق تقاسم السلطة، سيتولى أحد القادة العسكريين قيادة المجلس المشترك لمدة 21 شهرًا يتم التحول بعدها إلى الحكم المدني خلال الثمانية عشر شهراً اللاحقة، استعدادًا لإجراء انتخابات ديمقراطية في العام 2022. ومع ذلك، يخشى المدنيون أن تنقلب المؤسسة العسكرية على الاتفاق الدستوري وترفض تسليم السلطة لحكومة منتخبة.
تحديات التحول الديمقراطي في السودان
سمحت عقود من الحكم المتواصل للجيش بأن يظل القوة المهيمنة على السياسة السودانية، حيث قام الجيش بتوسيع صلاحياته في ظل حكومة حمدوك بما يتجاوز المنصوص عليه في الاتفاقية، وهو ما أضعف سلطة رئيس الوزراء. كما سعت المؤسسة العسكرية إلى احتكار المعلومات المتعلقة بالدولة وبسط نفوذها وسيطرتها على المدنيين في الحكومة الانتقالية والاستيلاء على صلاحياتهم. وبذلك، فقد المدنيون ثقتهم في المؤسسة العسكرية. وسوف يجد المتتبع لتاريخ السودان الحديث أن السودان لم يهنأ بعد استقلاله في العام 1956، بحكومة مدنية لأكثر من عامين.
تعاني المؤسسة العسكرية في السودان من انقسام حاد، حيث يسعى كل طرف إلى تعزيز دوره إقليمياً ودولياً. وتنقسم المؤسسة العسكرية إلى قسمين: وزارة الدفاع، التي كان يقودها رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان وتخضع له حالياً بصورة غير مباشرة. و"قوات الدعم السريع" التي تخضع بالكامل لمحمد حمدان دقلو "حمديتي".
تمثل زيارة البرهان -الذي يسيطر على الشؤون الخارجية للدولة- إلى أوغندا في شباط (فبراير) الماضي للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أبرز مثال على الانقسامات داخل الجيش. وخلال تلك الزيارة، أبرم البرهان اتفاقاً أحادياً مبدئياً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي يقضي بتطبيع العلاقات بين البلدين ومن دون مشاورة الأطراف المدنية التي ترى أن خطوة التطبيع ليست من أولويات الحكومة الانتقالية، فمهمتها الأساسية هي تعزيز الاقتصاد وتثبيت مراكز الدولة لإجراء انتخابات وتهيئة البلاد إلى عملية انتقال ديمقراطية سلسة بحلول العام 2022.
وفي الوقت نفسه، يشكل النفوذ المتزايد لحمديتي أيضًا خطراً كبيراً على التحول الديمقراطي في السودان، فغالبًا ما يعتبره الكثيرون الرجل الأول والزعيم الفعلي للسودان، كما أن انخراطه في الحكومة أدى إلى تقويض الحكم المدني. وتسيطر قوات الدعم السريع بقوة على الشارع السوداني، فلا يكاد شارع يخلو من هذه القوات، وحتى منازل القيادات السياسية كانت محمية بهذه القوات إضافة إلى وجودها في مداخل القصر الجمهوري.
يمكن تفسير صعود حمديتي إلى السلطة بالدعم الذي يتلقاه بعض الدول الإقليمية الفاعلة، مثل مصر والسعودية والإمارات. كما يرجع توسع سلطة حمديتي أيضاً إلى سيطرته على مناجم الذهب والحصص التي يمتلكها، حيث تظهر قبضته على الاقتصاد مدى صعوبة إنقاذ الاقتصاد السوداني الذي دمرته سنوات من الصراع. وعلى الرغم من تعهدات حميديتي بإقامة انتخابات حرة ونزيهة وتحقيق الديمقراطية في السودان، وتكراره الدائم لمقولة "جئنا لنخدم الشعب السوداني ولم نأت لمساعدة حزب أو جهة"، إلا أنه يقوم حالياً بتعزيز سلطته شعبياً وسياسياً من خلال تشكيل حزب سياسي جديد، وتقديم مساعدات إنسانية وصحية لمواجهة تفشي فيروس كورونا، وإبراز دوره كقائد للسلام يعمل على الفض بين المتنازعين في السودان.‎
مستقبل السودان السياسي غير المؤكد
يعتمد مستقبل التحول الديمقراطي في السودان حالياً على عوامل داخلية وإقليمية ودولية عدة، منها نجاح حكومة حمدوك في الفترة الانتقالية في تحسين وضع المواطن السوداني اقتصادياً واجتماعياً. أما إقليمياً، فستحدد ديناميات الصراع في المنطقة مستقبل السودان ومدى قدرته على الوصول إلى تسوية في ملف أزمة سد النهضة. ومن ناحية أخرى، فان استقرار المنطقة سيكون بمثابة حافز للتحول من الحكم العسكري إلى الحكم المدني. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي استمرار الصراعات الإقليمية إلى تحفيز القادة العسكريين السودانيين على الاستمرار في السلطة، مما يجعل من غير المحتمل بشكل متزايد أن يقوموا بتسليم السلطة طواعية إلى المدنيين.
ومع ذلك، عكست الاحتجاجات التي اندلعت في 30 حزيران (يونيو) تحت شعار "تصحيح مسار الثورة" رغبة شريحة كبيرة من المجتمع السوداني في تحقيق انتقال سياسي حقيقي وملموس. كما كان لدعم المتظاهرين لرئيس الوزراء حمدوك أثر كبير على موازين القوى في السودان، حيث طالب المتظاهرون برحيل الجيش وحماية الثورة. وبذلك، يمثل رفض المحتجين للمكون العسكري ودعمهم لحمدوك ثقلًا إضافيًا للعنصر المدني في هذه المرحلة.
استجابةً لمطالب الشارع، وبعد أسبوع من الاحتجاجات، أصدر مجلس الوزراء السوداني بيانًا أعلن فيه عن رغبته في إجراء تعديل وزاري وطالب ستة وزراء بالاستقالة، منهم وزراء الزراعة والموارد الطبيعية والنقل والبنية التحتية والموارد الحيوانية. كما استخدم رئيس الوزراء حمدوك حسابه الخاص على "تويتر" لدعم مطالب المحتجين علناً، قائلاً إن "الثقة التي منحها الشعب للحكومة الانتقالية تجبرنا على الاستماع إلى صوت الشارع".
ومن المتوقع أن تهدئ هذه الإجراءات مؤقتًا من روع الشارع السوداني إلى أن تثبت الحكومة الجديدة كفاءتها وتوافقها مع مطالب الثورة. كما أن من مصلحة السياسيين السودانيين في الفترة المقبلة تجنب الانجرار إلى سيناريوهات يمكن أن تعيد الديكتاتورية في السودان. ومن ثم، فان الإقصاء السياسي لا يعمل لمصلحة السودان والأفضل هو تكييف سياسة شاملة تجاه جميع القوى السياسية المتوازنة التي تتوافق أهدافها وأجندتها مع خيارات الشعب.

اضافة اعلان

*صحفية وباحثة في مجال العلاقات الدولية والأمن القومي.