ذكاء مهدور: كيف نتقدم علميا ونفشل اجتماعيا؟

ثمة نسبة كبيرة من الشباب في المدارس والجامعات ومتخرجون يملكون تأهيلا معرفيا ومهنيا متقدما، ويحيطون بتخصصاتهم وأعمالهم (مهنية وتقنية غالبا) ويحوزون أيضا معرفة ومهارات عامة في اللغة والأدب والثقافة العامة، ويتمتعون بمستوى جيد من الدماثة والالتزام الاجتماعي والأخلاقي، لكن نسبة قليلة جدا منهم قادرة على صياغة وجهات نظر في العمل والحياة والأحداث اليومية والقضايا الوطنية والاجتماعية والمشاركة العامة، أو يملكون مهارات الحياة الاجتماعية الأساسية كالاستماع والجدل العلمي والقدرة على ملاحظة المعقولية في الاتجاهات والأفكار الأخرى أو القبول باحتمال خطأ الذات، أو استخدام المهارات المنهجية البسيطة التي تعلموها في العلوم في المجال الاجتماعي والإنساني، مثل التفكير النقدي والاستنتاج والاستقراء والنقد والملاحظة الذكية. كيف يستطيع الشباب أن يحلوا مسائل علمية معقدة ولا يقدروا على اشتقاق عدة اتجاهات ووجهات نظر في قضية وطنية أو اجتماعية او حياتية أو فكرية وملاحظة الصواب والخطأ فيها ثم ترجيح إحداها كما يفعلون كل يوم في الكتب والمختبرات العلمية؟ كيف يتعاملون بحياد موضوعي وتقبل لكل الحلول والأفكار العلمية لكنهم يتحولون في الوقت نفسه إلى متعصبين أو أحاديين في المسائل الاجتماعية والسياسية والثقافية؟ كيف يلاحظون ادق التفاصيل في المعرفة العلمية والتقنية لكنهم غير مشغولين بقضايا الانتماء والمشاركة والإصلاح والتنمية والتنظيم الاجتماعي لمدنهم ومجتمعاتهم؟ والأسوأ من ذلك كيف يكون الشاب متقدما علميا ومهنيا لكنه متعصب سياسيا ودينيا؟ كيف يستخدم العقل والمنطق بمهارة وتفوق في العلوم والمهن لكنه يتحول في العلاقات والسلوك والأفكار الاجتماعية إلى صياد خائف؟ ما نواجهه اليوم من ازمات اجتماعية وثقافية وفشل تنموي واقتصادي وندرة في القادة الاجتماعيين المؤثرين والفاعلين برغم ما لدينا من عدد كبير من المهندسين والأطباء والمحامين والمعلمين والمحاسبين والمبرمجين والتقنيين الناجحين في أعمالهم يؤشر إلى انفصال عميق وخطير بين المعرفة والحياة. والمحزن أكثر أننا لا نحتاج إلى إنفاق وجهد إضافيين لنحصل على المعرفة والمهارات الاجتماعية والحياتية المتقدمة ولا يساوي الكثير ما يمكن ان نبذله لأجل ذلك بالنسبة لما أنفقناه وبذلنا في التعليم والعمل،.. على سبيل المثال يكفي أن تكون الحصة الأولى كل يوم لجميع الطلاب عمليات استماع حرة ومفتوحة في الحياة والاحداث والأفكار والسلوك والتصورات، وأن نحرك على نحو عملي وواضح المرشدين وأساتذة الفن وأمناء المكتبات الذين وظفوا بالفعل ليطبقوا منهجا واضحا وبسيطا في البحث والاستماع والحوار وتبادل المعرفة ووجهات النظر والتفاهم والتعاطف والتحكم بالمشاعر والانفعالات،.. كيف يتعلمون ويناقشون أساسيات المواطنة والحياة والعمل والانتماء والمشاركة والتعاون والمبادرة والفردية والخصوصية ويتجنبون الاستدراج والتضليل والتنمر والاستقواء والتعصب والتطرف والكراهية والعزلة والاكتئاب، بل ويتعلمون ايضا مبادئ السلامة والحياة الأساسية كتجنب الخطر والاعتماد على الذات والتغذية الجيدة والنظافة والسلوك الاجتماعي وأسلوب الحياة المتقدم. القدرة على التفكير الناقد وبناء وجهات النظر والاستماع والتعاطف والمشاركة تشكل اليوم العمود الفقري للثروة والأعمال والفضائل الاجتماعية التي تحمي من التطرف والخواء والأزمات الاجتماعية كما تجدد الموارد وتنشئ أخرى جديدة، ولا يمكن أيضا مواجهة الفوضى والتشتت والاشاعات والتدفق الهائل للمعلومات عبر الشبكة من غير مواطنين يملكون المناعة الاجتماعية والثقافية والنقدية تجاه الأحداث والأفكار والتحولات الاجتماعية والثقافية المحيطة والهائلة، بل والتي على قدر من الضخامة يفوق قدرتنا على الاستيعاب والتنظيم. لم تعد المؤسسات التعليمية والإرشادية والإعلامية قادرة على تنظيم تداول المعلومات والمعرفة. هذه حقيقة نهائية ويجب الكف عن الاستمرار في وهم "المركزية" لكننا نملك فرصة عظيمة لتحويل الشبكية والتدفق الهائل في المعرفة لبناء المعرفة المتقدمة وتوظيفها اجتماعيا وإبداعيا وتشكيل حالة من التماسك الاجتماعي. بل ونقلل العبء التنظيمي الذي تقوم به المؤسسات السياسية والاجتماعية.اضافة اعلان