ذنوب في شوارع القاهرة

    ثمة الكثير من الإجابات عن الأسئلة التقليدية حول ما جرى من هجمات وتفجيرات ضد السياح في القاهرة، من قبيل البحث عن أسباب الحدث وتداعياته، لكن لا يوجد إلا إجابة واحدة عن السؤال الذي يفترض أن يكون الأكثر أهمية لمن أراد أن يحول دون تكرار تلك الحوادث مستقبلاً: "لماذا يقدم عربي في مطلع شبابه على التضحية بحياته، التي يفترض أنها أعز ما يملك، من أجل لا شيء"؟

اضافة اعلان

    والـ"لا شيء" هنا هي لا شيء حقيقية، إذ ما معنى إصابة أو حتى قتل أجنبي أو اثنين أو ثلاثة، وماذا سيغيّر ذلك في مسار الأحداث في المنطقة والعالم؟! بالطبع لا شيء.

    سنكون مخطئين لو أجبنا عن ذلك السؤال بانعدام السياسة في بلادنا. فالضيق السياسي له ألف مخرج غير أن يقتل شاب نفسه بنفسه، دون أن يصنع شيئاً في السياسة.

    الإجابة واحدة كما أسلفنا. فقد أُدخل الفقه في قفص السياسة وأُغلق دونه، ومُنع من أن يتطور. حتى أن الذين فعلوا ما فعلوا في القاهرة قالوا أنهم إنما يلبون نداء دينهم، ويرجون الثواب والجنة، ويحتسبون أنفسهم عند الله شهداء. وذلك كله ليس سياسة، وإنما قصورا في دور الفقه الديني، وحبسا له في قيود التوظيف السياسي، لتبرير أفعال السياسة أو لتبرير الانقضاض عليها.

    لو كان لدينا حياة سياسية سليمة، بمعنى وجود أحزاب حقيقية، وبرلمان قوي، وقضاء مستقل، وصحافة حرة، وحكومة منتخبة، لما حالت دون ما حدث، ولما منعته، فالمشكلة ليست في التعبير السياسي، والدليل أن تلك الحوادث وقعت فيما الحركات السياسية في مصر تفعل ما لم تفعله طيلة عقود، لدرجة أنها تخرج إلى الشوارع تجاهر برفض التجديد للرئيس وتطالب بالتغيير، فهل ثمة مجال للتعبير السياسي أحسن من هذا على امتداد سنوات تاريخ مصر المعاصر؟

    أما الدليل على أن المشكلة تكمن في تقييد الفقه وإساءة توظيفه، فهو أن تلك الحوادث لا تقف وراءها تنظيمات سياسية لها عقيدة تبرر للمنتحر التضحية بحياته بدعوى النضال، وتؤكد له أن زملاءه سيتابعون المسيرة من بعده، حتى تحقيق تلك العقيدة واقعاً، وإنما هي حوادث فردية غير منظمة، ما يعني أن العقيدة، التي دفعت هؤلاء الشباب للتضحية بحياتهم، هي عقيدة "مشاع"، جعلت تلك الهجمات تبدو كالعمل التطوعي، من أجل خدمة العقيدة التي لا يختلف عليها المجتمع (حسبما يفترض منفذو الهجمات)، وهي بالطبع عقيدة الإسلام التي تفسر فقهاً.

    هكذا، فالحل يكمن في انطلاق الثورة الفكرية الفقهية من الكتب القليلة الجديدة إلى دور الإفتاء ومنابر الخطباء وبيانات العمل السياسي ذي الطابع الإسلامي، بحيث تتغير النظرة النمطية التاريخية للفقه، من كونه أداة للتبرير السياسي إلى حالته الحقيقية التي تجعله خارج السياسة، وبالتحديد فوقها، لأن الفقه هو من مجال الفكر الثابت، فيما السياسة هي من مجال العمل المتغير، من أجل تحقيق ذلك الفكر واقعاً ملموساً في الحياة.

    من هذا المنطلق، يصير من نافلة القول التأكيد على أن تلك الحوادث، التي يُرفع فيها شعار التضحية في سبيل الله، لا علاقة لها بالإسلام، وأنها من الناحية الدينية تعد من قبيل الذنوب، لأن المرء فيها يقتل نفسه بنفسه، وبلا سبب ولا نتيجة. لكن تلك ليست القضية الأساسية، وليست الوسيلة المناسبة للحيلولة دون تكرار حوادث مثلها، فليس من وسيلة إلا إعادة صياغة وسائل حياتنا وقواعدها ومنطلقاتها، وأولها إطلاق الفقه، وتوظيف السياسة لصالح الفكر دون جمود، لا العكس.

[email protected]