
أحمد الشوابكة
مادبا- تتجلى في مادبا حالة التآخي والمحبة بين المواطنين، في مشهد هو أنموذج في الوئام الذي تنصهر فيه كل الأديان في أجواء إيمانية أخوية تعيشها المدينة، ويكتشف الزائر للمدينة حالة الأسرة الواحدة، التي عُرفَ بها أبناء مادبا باختلاف أديانهم، والذين حفروا على جدرانها العتيقة معاني المحبة والسلام واحترام الآخر ومعتقداته وحرمة التعدي عليها.
منذ قرون عديدة، يقصد مادبا- مدينة الفسيفساء والتراث العالمية، الوفود والزائرون من مختلف أنحاء العالم، بما تحويه من تنوع ديني أثري وسياحي وطبيعي فريد، ويجدون فيها ما يحبذونه من تعدد ثقافي وديموغرافيا، يبقى عالقا في ذاكرتهم، لا سيما الاطلاع على مفاهيم العيش والتآلف بين أبنائها الذين ينظرون إلى الإيمان بالأديان حقا طبيعيا لكل إنسان، الشيء الذي يعزز من حالة الارتباط المليء بالطمأنينة والسلام.
وتضم مدينة مادبا مجموعة من المعالم الدينية الأثرية عريقة التاريخ التي تصنف كأحد مصادر جذب السياحة في الأردن مثل: كنيسة ومزار رأس يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام) التي تقع داخل حرم دير اللاتين في تل مادبا الأثري، تم تأسيسها العام 1883، وتعد من أقدم الكنائس في المملكة، التي تقيم الشعائر الدينية منذ القرن السادس عشر ولغاية الآن،
ففي العام 1967، اعترف الفاتيكان بالكنيسة الكاثوليكية التابعة لبطريركية القدس كضريح لقطع رأس يوحنا المعمدان، وحث الزوار والحجاج على زيارة هذا الموقع الذي يعد من أقدم الكنائس التي تقام فيها الشعائر الدينية المسيحية في مادبا منذ إنشائها حتى اليوم ودون انقطاع.
ويوجد داخل الكنيسة ومتحفها، غرف ذات عقود مقوسة قديمة تسمى مغارة “رأس يوحنا المعمدان”، وغرف أخرى تسمى “المنذور”، ثم برج جرس الكنيسة في مكان، يعد أعلى نقطة في مادبا، إذ يستطيع الزوار مشاهدة بانوراما رائعة لمدينة مادبا والمناطق المحيطة بها.
كما تحتوي الكنيسة على أكروبول “القلعة” وتتكون من أقبية قديمة، وبئر مؤابية ما تزال المياه موجودة بداخلها ينزل إليها بدرج خاص، وفق مشرف موقع الكنيسة نادر اليعقوب.
وقال “إن الكنيسة الكاثوليكية تأسست العام 1880، وأقيمت في البداية ككنيسة صغيرة على تل مادبا من الحجارة والطين وسقفه بالخشب والقصب والتراب، لتصبح بعد ذلك الكنيسة الحالية لرعية اللاتين في مادبا، وهي من أقدم الكنائس التي تقام فيها الشعائر الدينية في مادبا، وفي العام 1967 اعترف الفاتيكان بها”. كما يوجد داخل الكنيسة، بحسب اليعقوب، متحف مكون من غرفة ذات عقود مقوسة قديمة ومغارة قطع رأس يوحنا المعمدان، وغرفة أخرى تسمى مكان النذور، ثم برج جرس الكنيسة في مكان أعلى مرتفع في مادبا. ويقول إن في مزار الكنيسة العديد من الرسومات والتصاوير الجبسية والمنحوتات التي تمثل حياة يوحنا المعمدان.
ويؤكد الباحث حنا قنصل، أن مشاهدة الأقبية والأنفاق الأثرية المؤابية تحت الكنيسة، والصعود إلى “جَرَسيّتها” عبر السلالم الحديدية المعلقة تجربة فريدة ومدهشة؛ حيث ترى مادبا مدينة الحب والتآخي والتسامح من أعلى نقطة فيها لوحة مفتوحة على الأفق تتجاور فيها الكنائس مع مآذن مسجد الحسين بن طلال وقبته الذهبية، معبراً عن هذه المعاني، بالقول: “كانت طيور الحمام تهرب من “جرسية الكنيسة” عندما تُقرع الأجراس وتذهب لتحتمي بمئذنة الجامع، وعندما يُرفع الأذان فيه تطير مرة أخرى لتأوي للجرسية”.
وبين الباحث والناقد حنا قنصل الدور الثقافي الذي لعبته مدرسة اللاتين التي أنشئت العام 1882 في التأسيس لنواة الحركة المسرحية في الأردن، متحدثاً عن مراحل انطلاقة المسرح في مادبا، منذ العام 1916 على يد الأب البولندي يوحنا نويفيل، الذي كان يجمع أبناء الرعية ويفترشون الأرض، ليؤدوا مهارات التمثيل المسرحي في الهواء الطلق، إلى مرحلة العشرينيات على يد الأب أنطوان الحيحي والأب زكريا الشوملي، ومروراً بالمؤرخ العلامة روكس بن زايد العزيزي، إلى أن اشتدت الحركة، وبخاصة في فترة السبعينيات عندما أنشأ مركز شباب مادبا فرقة مسرحية تخرجت فيها أسماء لامعة في عالم الفن، ومن هؤلاء: المخرج حسين دعيبس وشقيقه المخرج أحمد دعيبس والفنان الراحل فارس عوض والفنان مروان حمارنة.
وأعاد التأكيد أن مادبا مدينة ثقافية عالمية منذ بدايتها، وخريطة مادبا الفسيفسائية هي إرث عالمي تحوي أكثر من 350 موقعاً ورسمت في مادبا.
فيما يشبه رئيس بلدية مادبا الكبرى المهندس أحمد سلامة الأزايدة السابق، مادبا بمدينة فسيفساء البشر والحجر والتراث، فهي مجمع مسيحي وإسلامي متعايش، منذ 1400 سنة، في جو من المحبة والتآخي، الذي انتقل قبل عقود عديدة من حالة العيش المشترك إلى حالة الوئام والانصهار، الذي لا ينفك فيها المسجد عن الكنيسة، وسط خليط من الحضارات، التي سكنت مادبا التي كانت مقرا لكل العابرين بين الشرق والغرب والجزيرة العربية وبلاد الشام.
ويقول مدير آثار مادبا خالد الهواري “إن هناك خططا وبرامج تعدها وزارة السياحة والآثار في عملية الترويج والتسويق، من خلال المسارات السياحية التي وضعت فيها كل المواقع الأثرية والسياحية داخل مادبا والمناطق السياحية لها”، مشيرًا إلى الأهمية الأثرية والتاريخية والحضارية لمزار كنيسة قطع رأس يوحنا المعمدان، الذي يلاقي رواجا لزائريه.
ويذكر أن مادبا مدينة مقدسة لدى أتباع الأديان السماوية، إذ عبرها النبي موسى عليه السلام، وتعمد السيد المسيح عليه السلام، في واد قريب منها هو وادي الخرار، وقطع فيها رأس يوحنا المعمدان، كما عبر النبي محمد عليه الصلاة والسلام من منطقة أم الرصاص بقصد التجارة قبل النبوة.