راشد صويص: تجاوز على الإنسانية والدستور

مشاهد تشييع جثمان البطل الأردني الشاب راشد صويص، كان يفترض أن تستدعي فينا جميع ما في الإنسانية من مشاعر تشاركية في حجم جسامة الحدث. شاب في مقتبل العمر يذهب إلى الموت المفاجئ من دون أي إشارة، تاركة لوعة كبيرة في قلوب أهله وأصدقائه ومحبيه.اضافة اعلان
أصدقاؤه الذين حملوا النعش، كان يظهر عليهم؛ من تصرفاتهم وأهازيجهم، حجم اللوعة التي تعتصر قلوبهم، وأرادوا أن يعبروا بأي شكل عن تلك المشاعر التي لم تكن دفينة. لكن، ترى، لماذا خرج، وكما هي العادة دائما، نفر يتحدث عن الحلال والحرام، وعن الفرق الناجية في مقابل الفرق الهالكة، وعن أهل الجنة في مقابل أصحاب النار؟!
في واحدة من تجليات «الأزمة» التي تعيشها المجتمعات الإسلامية اليوم، وفي الماضي أيضا، تظهر بوضوح عقدة التميز التي لا تستند إلى أي أساس واقعي أو عملي، وهي بذلك تكاد تتماهى بوضوح مع الشوفينية المريضة التي تمجد الجماعة الخاصة بصرف النظر عن أي معطيات موضوعية تؤشر على الانحطاط الثقافي والمدني والحضاري لتلك الجماعة، فكل ما يحتاجه الأفراد في هذا النوع من «الاعتقاد» هو الانتماء بغير عقل، والتسويق لمقولات نرجسية لا تؤشر إلا إلى العيش في الحيوات الماضوية.
لكن حدود المشكلة في هذا النوع من تجاوز المشاعر؛ الدينية والإنسانية لغير المسلمين تأخذ بعدا أكثر تشوها، وتتجلى بوضوح في عدم تقبل الاختلاف من أي من زواياه، والنظر إلى «الآخر»، إن جاز التعبير في مثل هذه الحالة المشوهة، على أنه طارئ وغير حقيقي، وأنه لا يتمتع بوجود عيني خارج وجود «الأكثرية»، أو أن مكانه الحقيقي ليس في الوطن الواحد الذي ينبغي أن يكون للأكثرية ومعبرا عن اعتقاداتها الفردية فحسب، أي أن كل ما هو خلاف ذلك لا بد أن ينتهي بأي شكل من الأشكال.
يجب أن لا نظن أن مثل هذه المقولات هي تعبيرات خيالية، أو تجليات غير واقعية، فهي موجودة فعليا في أذهان كثيرين لا يستطيعون التعامل مع الاختلاف بوصفه ثراء، بل بوصفه تهديدا ينبغي إنهاؤه تماما. إنها تعبيرات ظهرت، عمليا، بوضوح من خلال الأفعال التي قام بها تنظيم القاعدة الإرهابي وتفرعاته، وأتقنها باحتراف تنظيم داعش الإرهابي، فرأينا كيف كانت تدور في الأراضي التي سيطر عليها عمليات أشبه بالتطهير العرقي والمذهبي والطائفي، معتمدا فيها على «ثقافة» اكتسبها على مدار عقود من مجتمع مشوه فاقد لتفكيره المنطقي، ولا يستطيع أن يستدخل أي ثقافة إنسانية خارج إطار «الجماعة»، أي أنه لا يحتمي إلا بالروابط البدائية.
الغريب، وفي كل مرة يحدث فيها أمر كهذا، نرى صمتا تاما من قبل الدولة وأجهزتها، وهي التي تصر على الدوام بأنها تحارب التطرف، وتسعى إلى جعل المواطنين شركاء حقيقيين في الوطن الواحد. إن شعور الأردنيين من المسيحيين بأنهم لا يحصلون على حقوقهم كاملة، أو لا يتم احترام معتقداتهم ومناسباتهم ومناسكهم، فيه غبن كبير، وتجاوز على الدستور، وأيضا يفتح المجال أمام عدم اليقين في قدرة الدولة على حماية مصالح جميع المواطنين.
وإلى حين النجاح في تحقيق هذا الهدف المبدئي، سنظل ننظر بخجل إلى إخواننا المسيحيين الذين بنوا معنا هذا البلد، وساهموا في نهضته بقدر لا يقل عما ساهم فيه الآخرون، بينما نحن نسمح، وبلا خجل، بأن يكون على الدوام عرضة لجميع المقولات والأفكار التي تحط من قدرهم ومن قدر معتقداتهم.
استراتيجيات محاربة الفكر الظلامي والتطرف والإرهاب، ينبغي أن تبدأ من خلال بناء شراكة حقيقية من مجموع المواطنين، لا أن نبقى متواطئين في السماح لفئة بالتطاول على فئة أخرى. هذه مهمة الدولة، والتي تقاعست حتى اليوم عن تحقيق مثل هذه المعادلة السهلة، تاركة المجال للمتطرفين أن يصيغوا العلاقة بين المكونات المجتمعية حسب أهوائهم وأمراضهم، وفي النهاية نتساءل بغباء: من أين يأتي الإرهاب؟!
قلوبنا يعتصرها الألم على رحيل البطل الشاب راشد صويص، رحمه الله تعالى، وألهم ذويه وأصدقاءه الصبر الجميل.