ربع عمرك أمام التلفزيون

يشهد الفضاء العربي حالة إغراق إعلامي تكاد تكون غير موجودة في إقليم آخر من العالم؛ حيث وصل عدد "الفضائيات" العربية المجانية مع مطلع هذا العام إلى نحو 1400 محطة. وبعدما كانت تتضاعف كل ست سنوات، أصبحت تتضاعف كل ثلاث سنوات، مع الإشارة إلى ازدياد "الفضائيات" ذات المضمون الديني الطائفي، وأخرى تسوق الدجل والشعوذة باسم الدين.اضافة اعلان
يحدث هذا وسط أزمة مهنية وأخلاقية عميقة، تبدو ملامحها في الصراع المحتدم للسيطرة على الصورة التلفزيونية. وهو الصراع الذي بات يحمل مضامين سياسية واجتماعية وثقافية بالغة التعقيد، تعكس تعقد المرحلة الانتقالية التي تشهدها المنطقة العربية.
في أخبار الأسبوع الماضي وحده نجد؛ أكثر نجوم التلفزيون العربي مشاهدة، وهو الإعلامي المصري باسم يوسف،  يضطر إلى الاعتذار عن سرقة مقال بالكامل من كاتب بريطاني (بن جودا) متخصص بالشؤون الروسية، ومؤيد لإسرائيل؛ قام يوسف بترجمته ونشره باسمه باللغة العربية، من دون الإشارة إلى الكاتب الأصلي. وفي الأسبوع نفسه، حاولت فضائيات عربية الاستمرار في الدفاع عن الراقصة المصرية فيفي عبده، وعن حقها في أن تُمنح لقب الأم المثالية، في الوقت الذي كانت تُمنح فيه هذه الراقصة وقت الذروة في واحدة من أكثر القنوات مشاهدة، والتي تقدم نفسها على أنها قناة موجهة للأسرة العربية.
صحيح أن الفضاء العربي الجديد حرك البحيرات الراكدة في العالم العربي، ووفر منذ نحو عقد ونصف العقد معرفة جديدة، وتحديدا معرفة إخبارية، ساهمت في تشكيل طريقة فهم المجتمعات العربية للتحولات التي تشهدها. وبعيدا عن الجدل حول دور هذه الفضائيات في التحريض على الثورات والتحولات العربية، فإن من المؤكد أن الحضور الإعلامي في تلك التحولات يرجع بالدرجة الأولى إلى قوة المشهد التلفزيوني قبل غيره.
لهذا، شهدت هذه الصناعة الإعلامية أكبر استثمار صراعي، لأغراض سياسية صرفة، ما ضيع على الإعلام الفضائي العربي فرصة النمو المهني الذي كان من المؤمل الوصول إليه بعد ازدهار الصحافة التلفزيونية في النصف الأولى من العقد الماضي، كما عكسته المحطات الإخبارية، وما أثبتته من قدرة على المنافسة الإقليمية والدولية.
اليوم، تحولت هذه الصناعة من صناعة مهنية مبشرة، إلى تصنيع سياسي لا أفق له؛ ما جعل هذا الإعلام يتخلى في جانب من عمله عن مهمته بحماية حق المجتمع في المعرفة، وأصبح جزءا من المشكلة وجزءا من الأزمة، وليس جزءا من الحل وأداة للتنوير. وتبدو خطورة الأزمة في أنها تضرب في العمق في مرحلة انتقالية حرجة، سياسيا واجتماعيا وثقافيا.
تضرب هذه الأزمة في العمق الاجتماعي والثقافي العربي إذا ما علمنا أن معظم الجمهور العربي يعتمد على الفضائيات كمصدر أساسي للمعلومات، في الوقت الذي نلاحظ فيه أن واحدة من أكثر سمات التلقي لدى الجمهور العربي هي السلبية وقوة التفاعل في الآن ذاته. هذا علاوة على غياب منظور التربية الإعلامية في المناهج التعليمية والتثقيفية؛ وهو المنظور الذي يتعلم من خلاله الأطفال والمراهقون والشباب والكبار التعامل مع وسائل الإعلام؛ وعلى الجهة الأخرى غياب نظم رشيدة لمساءلة وسائل الإعلام.
للأسف، يستهلك العربي أمام التلفزيون أكثر من ربع عمره، وسط مشهد من الفوضى؛ بلا معرفة فعلية ولا متعة. وهو حتماً وقت أكثر مما يقضيه في التعليم والتعلم، وأكثر مما يقضيه في العمل والإنتاج.