ربيع قصير في الشتاء الطويل..!

عشر سنوات، تحديداً في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، أشعل بائع فاكهة تونسي النار في نفسه احتجاجاً على سوء المعاملة من شُرطية في البلدية. وما تلا ذلك معروف. في البداية "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية"، و"الشعب، يريد…"، ثم سرعان ما هربت "اللحظة التاريخية" القصيرة، ولَم تعد الأشياء مثلما اعتادت أن تكون.اضافة اعلان
الآن، بعد 10 سنوات من الربيع القصير، أصبح "الشتاء العربي الطويل"، أكثر برداً وغُربة –وحرائق. الأنظمة القديمة المؤمنة بأن السلطة حقها الإلهي، عادت في نُسخٍ أكثر شراسة وعناداً. والتي لم يطلها التغيير تحرّرت من بقايا الخجل، وأصبح لديها شيء جديد تخيف به شعوبها: "انظروا فقط ما يحدث للسوريين، والليبيين، واليمنيين! هذا جزاء الذي يريد تغيير سُنّة الأشياء". والصورة النهائية الآن، بعد عقد من الربيع القصير، عالَم عربيُّ منفّر، مضطرب، فاقد الوجهة، ومباح للطامعين.
آذن "الربيع" بعودة روسيا إلى المنطقة، وأطلق عدوانية تركيا بلا رادع، وأجج الصراع الطائفي السنّي الشيعي، وخلق ملاذات للتنظيمات المتطرفة الوحشية، واستحضر كل أنواع الهويات الفئوية. وفوق ذلك، ألب عرباً على جيرانهم فاشتروا الأسلحة ليوزعوها على كل عاكفٍ على التخريب. ووقفت أوروبا وأميركا يتفرجون وينتظرون المنتصر، وأسهموا حيث تسنت الفرصة –لا في نصرة الشعوب ولا المصالحات الوطنية- وإنما في تدمير أي بلد عربي تزل قدمه في مستنقع الصراعات الأهلية. وكان من أبرز ضحايا هذا العقد القضية الفلسطينية التي أصبح التنصل منها والاشتراك في تصفيتها متاحين كما لم يكونا في أي وقت.
هل كان قدوم "الربيع العربي" في ذلك الوقت وبتلك الشروط حتماً؟ الجواب معطى: لقد أتى وانتهى الأمر. كانت تلك "اللحظة التاريخية" نتاجاً لتوتر قوس السُّخط حتى النقطة الحرجة. ويلخص تقرير لصحيفة "الغارديان" ذلك الظرف: "بحلول العام 2010، أدى تلاقي مجموعة من الظروف إلى جعل استمرار الوضع الراهن صعباً. قاد التفاوتات المتزايدة في مستويات المعيشة، والنخبة غير الخاضعة للمساءلة باطراد، والشباب المضطرب المتنامي بسرعة مع القليل من الفرص -ذلك قاد الكثيرين إلى الاعتقاد بأنه ليس لديهم ما يخسرونه من خلال الاحتجاج".
وكانت تلك مُحاولة ضرورية، ومحقّة، وشُجاعة. لكنها وقعت ضحية للارتجال والحماسة العاطفية. انطلقت بلا تخطيط ولا قيادة –سوى وسائل التواصل الاجتماعية والهواتف الخلوية- متشجعة بدفء الجموع، لتواجه قوى محصّنة، متمرّسة في التنظيم والقسوة، ومدججة بالسلاح. وكان السياق عقوداً من تجريد الشعوب من أي قدرة على التنظيم، أو التعلُّم، أو التخطيط لأبعد من كسب الخبز اليومي. وحتى الإسلاميون، الوحيدون الذين أتيح لهم في السابق بهامش من العمل والتنظيم، واجهوا لحظة الحقيقة. وكما كتب دومينيك مويسي، فإنه "بمرور الوقت، كشف الربيع العربي المحدودية الخطيرة للإسلاميين والإسلام السياسي".
ومع ذلك، كان ما أكدته خبرة العقد الأخير هو حقيقة أن الثورة ستظل دائماً ممكنة ما دامت أسبابها حاضرة. ولم يمنع فشل محاولات التغيير حدوث محاولات أخرى لأن استكانة الإنسان لعوامل الاستلاب ليست خياراً. ولذلك، حتى في مناخ ملتهب ومثبط مثل الذي تمر به المنطقة منذ سنوات، أطاح الجزائريون والسودانيون بحكّامهم المتشبثين، وأسقط العراقيون واللبنانيون رؤساء الوزارات في بلديهم وما يزالون يحتجون.
من المعروف أن التاريخ "ليس خطّياً"، كما تقول مجلة "الإيكونوميست" في قراءتها للعشر سنوات الأخيرة. "الثورات تفشل؛ ويربح الأشرار أحيانًا. ولا يوجد سبب لتوقع أن تسفر الجولة القادمة من الانتفاضات العربية عن نتائج أكثر سعادة من سابقتها. ولكن، لا يوجد بالمثل أي سبب لتصديق الحكام المستبدين عندما يقولون إنهم يستطيعون منع الثورات".
الآن، لم يتغير شيء في الظروف التي تجمعت لتدفع شعوب المنطقة إلى الثورة. بل إن الخليط الآن أكثر قابلية للاشتعال. وقد أضاف الوباء الذي دمر الاقتصادات وأنهك الناس، واجتراء الأنظمة على اتخاذ مواقف متعارضة تماماً مع العواطف الشعبية في المنطقة والتي لم تكن لتجرؤ على الهمس بها، إلى التوتر الأصلي السيئ في حد ذاته. ولطالما كان نداء الحرية والكرامة والحق في الحياة شوقاً إنسانياً لا يحبطه شيء. ودائماً جاء الربيع بالثمار والحياة والشمس –ولا بد أن يأتي ولذلك استمرت الحياة في الأرض.