رقصة عكاويّة في الأغوار

تسبّب اعتداء مستلمي ضرائب وجُباةٍ عاملين لدى السلطات العثمانية -مقابل حصة يحصلون عليها وهم يجمعون الضرائب "الميري" لصالح اسطنبول- على أموال الناس وأعراضهم؛ ودخولهم بيوتهم، وأكلُ طعامهم عنوة، وسرقة أثاثهم، بقيام ثورة. وتسبّب انتشار قُطّاع الطرق في الأرجاء، وبورالأرض الزراعية بين "البحرين" (طبرية والمتوسّط)، وتحولها إلى مستنقعاتٍ تَملؤها الأوبئة ويحيطها البؤس، ببناء شبه دولة وطنية. اضافة اعلان
واليوم، يتمنى "أبو صقر" في الأغوار الشمالية لو جاءه ظاهر العمر، لنجدته وزفاف ابنه، ولكنّ متظاهرين تحركوا قبل أيّام احتجاجا على ذبح إرث عكا الكوزموبولوتونية، سيُلبّون أبا صقر.
تَظاهَرَ فلسطينيون قبل أيام احتجاجا على تحويل خان العمدان، على بعد أمتار من بحر عكا، إلى فندق بإشراف إسرائيلي، ووفق عطاء يتعهد فيه "المستثمرون" أيضاً بتفريغ المنطقة من العائلات التي تقطن حول الخان. وصل الناس. وجدوا الخان مُغلقاً. وَعَدَ الإسرائيليون بعض من يعمل حوله وقربه، ويبيع رماناً وعصيراً وأشياء أخرى، بالعمل فيه بعد تحويله إلى فندق. ولكن الأهالي قادوا المتظاهرين فتسلقوا الجدران وأسطح البيوت وولجوا الخان ورفعوا راياتهم. سيدة كانت ترتدي قميصا أسودا عليه الرقم 194؛ رقم قرار الأمم المتحدة الذي يكفل حق العودة للاجئين. فتى صغير أراد تصوير المشهد بهاتفه المحمول، كانت صورة شاشة الهاتف من مظاهرته ضد تهويد النقب "برافر لن يمر".
بينما كانوا في طريق الخروج، مرّ بعضهم بالقلعة، وحدّثوا أبناءهم عن "الثلاثية الحمراء". وقَفَ إلى جانب الطريق، ومرر يده بسرعة على مُشغّل الأغنيات. وعندما بدأت أغنيات "العاشقين"، نقّل الأغنيات ببطء، ووصلت الأغنية: "ومن سجن عكا طلعت جنازة". أخبر الأولاد: هنا كان الرجال الثلاثة، زمن الانتداب البريطاني، المحكومون بالإعدام لأنّهم ثوّار. وأخبرهم القصة كما فهمها من عمه ذات يوم في الثمانينيات: كان الثلاثة يتسابقون يوم ثلاثاء من العام 1930 من سيصعد المشنقة، وكل منهم يخبر زميله ما يبرر أن يسبقه للشنق.
اتصلت أُمهُم بأمّها، سألتها أن تخبرها أكثر عن الخان. بدأت أمّها تُحدّثها عن النكبة وكيف لجأت العائلات إلى الخان العام 1948، وتحول إلى مخيم لاجئين. قالت الأم للجدة، وماذا قبل؟ قالت أعرف أنّ مصنع "ملبس" كان هناك.
عندما ثار ظاهر العمر المولود  نهاية القرن السابع عشر، كان يريد عالماً آخر؛ عالماّ تسير فيه الجميلات في البراري، لا يجرؤ أن يمسّهن متطفل بنظرة. ويريد أهالي يزرعون أرضهم. هو من أسرة تعمل أصلا مع الأتراك في جمع الضرائب، ولكنه أراد سبيلا آخر. استمر في دفع الضرائب، ولكن بالمقابل أمّن للناس الأمن والأمان. وبدأ بالحرب والحيلة والسياسة وتثوير الناس، يمد نفوذه في أماكن يسومها الجُباة سوء العذاب، فأصبح له شبه دولة مستقلة.
وصل عكا العام 1746، فحولها إلى عاصمةٍ كوزموبولوتونية، يلجأ القبارصة إليها من جور حكامهم، ويأتيها التجار الفرنسيون، ويُصبح الجليل بلدا زراعيا، ويحصل من يستصلح أرضاً عليها، وعلى قروض من دون فوائد ليزرع. وتأتي السفن الإنجليزية والفرنسية تشتري القطن، ويصبح قطن عكا (دي أكرو) فخر الصناعة الفرنسية.
سقط ظاهر بفعل الصراعات مع الأتراك وعائلات وجهاء آخرين، واستعان بالمصريين والروس، وبعد أن هزم الفرنسيين في بحر عكا يوماً وقد استعان بهم خصومه. خليفته في عكا أحمد باشا الجزار، البشناقي الأصل، الذي كان قد قاتل وهزم الروس في بيروت، وتحطمت أحلام امبراطور فرنسا نابليون بونابرت على أسوار عكا التي بناها ظاهر وعززها الجزّار. بنى خان العمدان العام 1785، مثلما بنى مسجده الشهير. كانت عكا تحاول البقاء عاصمة للتجارة والأمن، لذلك أقام فيها الجزار، رغم أنّ صيدا هي عاصمة الولاية الرسمية، وكان الخان نزلا جديداً للأجانب والزوّار.
ينتفض الفلسطينيون، يسألون: ماذا يمكن عمله في المحاكم، وأمام اليونسكو، وفي الشارع؟ ويتساءلون: أين مسؤولو الأوقاف الإسلامية في العالم؟ أبو صقر، بدوي في الأغوار، قصته في التصدي للاستيطان تحتاج وقفة خاصة، كأني به بَحثَ عن النجدة والعزوة في حفل زفاف ابنه أمس، يريد ظهيراً مثل ظاهر العمر، فدعا فرسان مظاهرة عكا.
مبروك للعريسين، وأهلا بأحفاد ظاهر العمر، والغد آت لعكا كوزموبولوتونية فلسطينة عربية.

[email protected]