رمزيَّةُ الخبز..!

"إنّا نحبُّ الورد، لكنَّا نحبُّ القمحَ أكثر/ ونحبُّ عطرَ الورد، لكنّ السنابلَ منه أطهر/ فاحموا سنابلَكم من الإعصارِ، بالصدرِ المُسمَّر".
(عن الصمود، محمود درويش)اضافة اعلان
*   *   *
كان من الطبيعي أن يحضر الخبز في أقانيم الحلم العربي: الخبز؛ الكرامة؛ والحرية. فالخبز -عالمياً تقريباً- هو الضروري الثالث للبقاء البشري، بعد الهواء والماء، باعتباره مجازاً عن الغذاء الذي لا حياة للإنسان من دونه. وعندما يكون الخبز نادراً أو مهدداً أو عزيزاً، فإن كل شيء آخر يصبح متوتراً ومهدِّداً. وعلاقة الخبز بالكرامة والحرية، كحاجات إنسانية عليا، متداخلة عضوياً. لا كرامة لإنسان جائع، لأن الجوع يدفع الناس إلى الخنوع والتسوُّل. ولا يمكن الشعور بالحرية إذا كانت الأمعاء خاوية، إلا بقدر ما تكون حرية الذهاب إلى الموت.
وليست رمزية الخبز بهذه المعاني عربية خالصة. فقد حضرت الاضطرابات حيثما تعلق الأمر بالخبز. وعلى سبيل المثال، تقول موسوعة ويكيبيديا:
"الأهمية السياسية للخبز كبيرة. في بريطانيا القرن التاسع عشر، أدى ارتفاع سعر الخبز بسبب "قوانين الذرة" إلى حدوث انقسامات سياسية واجتماعية كبرى، وكان (الخبز) أساسياً في النقاش حول التجارة الحرة مقابل الحمائية. وأظهرت "قانون موازين الخبز والجعة" في القرن الثالث عشر أهمية الخبز في العصور الوسطى من خلال وضع عقوبات ثقيلة على الخبّازين الغشاشين، وظهر الخبز في "ماغنا كارتا" قبل ذلك بنصف قرن".
لكن الخبز أكثر ارتباطاً بكيفيات الوجود في الثقافة العربية للسبب الموضوعي الذي نعرفه: يندر أن يغيب الخبز عن وجودنا اليومي، ويرتبط بدء اليوم في الذاكرة برائحة خبز الأمهات. وإذا توفر الخبز بالتحديد، فإن العربي يشعر بأنه ضَمن البقاء والكفاح يوماً آخر بالحد الأدنى. ولذلك، كان عنوان "ثورة الخبز" أو "انتفاضة الخبز" حاضراً كعنوان لكثير من الأحداث التي حرضها السخط، ومنها:
"انتفاضة الحرامية"، وسميت أيضاً "انتفاضة الفقر": حدثت في مصر في كانون الثاني (يناير) 1977 في عهد أنور السادات. و"انتفاضة الخبز" في تونس في العام 1984. و"انتفاضة الخبز" في المغرب في العام 1984. و"انتفاضة الخبز" في تونس في العام 1986. و"انتفاضة الخبز"  في الجزائر في العام1988 . و"ثورة الخبز" أو "هبة نيسان" في الأردن في العام 1989. و"ثورة الخبز" في الأردن أيضاً في العام 1996 –(حسب ويكيبديا).
يضيف آخرون أيضاً اسم الخبز لتحركات شعبية أخرى في الأردن في الأعوام الأخيرة، حتى لو كان التوصيف الحرفي لأسباب الحراكات يتصل برفع أسعار الوقود أو السلع، أو رفع الدعم عنها مثلاً. والعلاقة واضحة: إذا ارتفعت كلفة العيش على المواطن لأي أسباب، فإن ذلك يقضم من حصة "الخبز" الضروري. وإذا كانت بعض العائلات تعيش على الخبز والشاي، فإن بالوسع تصور ما يعنيه جعل الخبز أبعد منالاً.
لذلك، كان الحرص الدائم في الخطاب الرسمي على تكرار الإعلان: "لا مساس بالخبز". وشكل هذا الإعلان دائماً تطميناً أخيراً بأن الأمور ما تزال تحت السيطرة: ما دام الخبز بخير، فكلنا بخير. وفي الأساس، يعني دعم خبز المواطن أنه في وضع لا يستطيع معه كسب خبزه اليومي من دخله الخاص، مهما كدَّ واجتهد. وهو مؤشر اقتصادي-اجتماعي سيئ بما يكفي حيث الحياة مشروطة بدعم الدولة للخبز والسلع التي يفترض أن يكفلها الدخل الشخصي.
لذلك، قد يعني "المساس بالخبز" أخيراً، الاضطرار إلى التخلي عن التطمين الأخير، وإعلان أن الفرد قد تُرك أخيراً لتدبر أمر جلب خبزه وحده، بلا دعم ولا أي شيء. ودائماً يشكك الناس في آليات الدعم البديلة وثغراتها وإشكالياتها. ودائماً تمنى المواطن أن يُرفع الدعم لأن الأدوات قد أتيحت له ليدفع ثمن خبزه وأشيائه من جيبه وكسبه، فذلك أوفى بالكرامة –لكن الأمر ليس كذلك.
بالطبع، يُذكرنا الخبزُ، بعلاقته بكل الأشياء، بالحكمة التي نرددها كثيراً للشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران: "ويلٌ لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع". وسيتذكر بعضنا مشهد مروج القمح المتمايل حولنا في كل مكان، وكيف اضمحلت حقولنا بغرابة –بما في ذلك من رمزية طاغية. والفكرة أنه إذا لم يكن خبزُك حراً وكان في مخازن الآخرين، فإنك لن تكون حُراً أبداً.