روان التي ظلموها مرتين

"تكمن الوصفة الأسهل للهروب من مواجهة لأي مشكلة وتسطيحها في التعامل معها كحالة معزولة، لا تستوجب البحث الجاد عن جذورها، بل الاكتفاء بالعلاج السطحي الذي يتعامل مع العرض المرضي دون السبب " بهذه الجملة الافتتاحية بدأت مقالاً لي نشرته في الغد قبل أربع سنوات، حاولت من خلاله تسليط الضوء على قضية الاعتداء على الأطباء والعاملين في القطاع الصحي، ومطالبا بوقفة معمقة تراجع من خلالها القوانين والممارسات التي تسمح بتكرار مثل هذه الاعتداءات دون وجود رادع قيمي او قانوني حقيقي. اضافة اعلان
أسوق هذه المقدمة بين يدي قضية الاعتداء الجديدة التي شغلت الرأي العام مؤخرا على الطبيبة في مستشفى الامير حمزة " روان " والتي تم الاعتداء عليها جسديا من قبل أحد مرافقي المرضى بدون ذنب اقترفته.
لكن هذا الفعل المشين على عظمته لم يكن أسوأ ما في الموضوع، وانما ردود الفعل الشعبية اللامبالية بالجريمة بل والمهللة لها في بعض الاحيان والتي ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي هي ما أذهلني، وجعلني أشعر أننا امام آلاف المعتدين المحتملين مع وقف التنفيذ بإنتظار الفرصة , حيث شهدنا موجة عاتية من التعليقات والمنشورات تهدف الى شيطنة الاطباء والقطاع الصحي برمته مستغلين حالة السخط الشعبي على مستوى الخدمات الصحية وهي قضية آخر من يسأل عنها الطبيب.
أذكر في بدايات رحلتي مع مهنة الطب وكنت يومها طبيب امتياز في مستشفى البشير، فوجئت صباح أحد الايام وإذا بأحد الزملاء يظهر فجأة في قاعة الاجتماعات الصباحية وهالة سوداء كبيرة تحيط بعينيه عرفت بعدها أنه قد تم الاعتداء عليه قبل أيام في قسم الطوارئ ولن أنسى هذا المنظر فقد كان تماس لي مع حادثة من هذا النوع علماً أن هذا الزميل كان أحد أنشط الأطباء وأكثرهم اخلاصاً لمرضاه، حيث أذكر أنه قد أدخل الى المستشفى في نفس الفترة مريض مصاب بمرض مُعدٍ خطير احجم معظم الطاقم عن التعامل معه خوفاً من العدوى المميتة التي يحملها فما كان من هذا الطبيب الا أن تبرع أن يقوم هو برعايته طيلة اقامته في المستشفى.
الاعتداء على الآخرين واستباحة دمائهم ظاهرة تعافها الانفس السوية والمجتمعات المتحضرة، لكن ذلك لا يكفينا مؤونة الاكتفاء بتوصيفها، وعدم اتخاذ الاجراءات اللازمة من أجل الحد من انتشارها، وحماية أرواح الابرياء التي تشكل البند الاهم في بنود العقد بين المواطن والدولة وبدونه تتحول الدول الى مستوطنات بدائية تحكمها شريعة الغاب حيث لا مكان للضعيف الا فريسة بين مخالب القوي المتنمر.
لا يوجد احصائية علمية عن عدد حالات الاعتداء على العاملين في المجال الصحي في الأردن لكن هناك دراسات قادمة من دول مشابهة تؤكد أن أكثر من نصف العاملين في هذا المجال قد تعرضوا للاعتداء البدني أو اللفظي مرة واحدة على الاقل خلال مسيرتهم المهنية.
لقد شهدت خلال عملي عشرات حالات الاعتداء على العاملين في المجال الصحي، لكن نسبة ضئيلة منها وجدت طريقها الى القضاء، وذلك للتعقيدات التي سيمر بها صاحب الشكوى والتي يضطر حيالها الى العض على الجرح، خوفاً من أن يتحول الى مذنب يبحث عمن يخلصه من ورطته.
ستهدأ قريبا غضبتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، وسيمارس على الضحية واهلها شتى انواع الترغيب والترهيب لسحب الشكوى ولملمة جراح الجسد والنفس وسنستمر بالتظاهر أن ما حصل لا تعدو كونها مجرد حادثة معزولة غريبة عن مجتمعنا، لنصحو في قادم الايام على حالة اعتداء جديدة، ستكون أيضا معزولة وغريبة عن مجتمعنا , واشربوا قهوتكم.