زيادين.. رمز الرجولة والصمود

نعيم الأشهب

صيف العام 1950، تلقيت إشارة من مركز "عصبة التحرر الوطني" في فلسطين (لم يكن الحزب الشيوعي اﻷردني قد تشكّل بعد) بأن رفيقا طبيبا التحق بالعمل في مستشفى "أوغاستا  فيكتوريا" بالقدس، والذي تديره وكالة غوث اللاجئين، وأنه يريد الانتظام هو وزوجته في الحزب.اضافة اعلان
زرته في سكنه داخل المستشفى، واتفقنا على العلاقة التنظيمية (أشار طيب الذكر د. يعقوب زيادين "أبو خليل" إلى هذا الحادث في كتابه اﻷول "البدايات"). ولم يمض وقت طويل، حتى كان هذا الطبيب الشاب، ابن قرية السماكية، قضاء الكرك، والقادم لتوّه إلى القدس، قد أفلح في نسج علاقات اجتماعية-سياسية مرموقة، رغم المناخ الأمني وانعدام الحريات الذي كان يخيّم على البلاد.
جاء قدوم أبو خليل إلى القدس في مرحلة عاصفة، تعجّ بأحداث غير عادية؛ فعقب نكبة 1948، ومؤتمر أريحا في كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه، تقرر إجراء انتخابات نيابية تشمل الضفتين ﻷول مرة. كانت "عصبة التحرر" التنظيم السياسي الوحيد الذي قاوم هذه الانتخابات. وقبل انعقاد هذه الانتخابات في السابع من نيسان (أبريل) 1950، نظمت "العصبة" مظاهرة جماهيرية في نابلس؛ يوم الحادي والثلاثين من آذار (مارس)، أي قبل أسبوع واحد من إجراء تلك الانتخابات. وفي أيار (مايو) 1951، جرى اﻹعلان عن قيام الحزب الشيوعي الأردني، من "العصبة" والحلقات الماركسية في شرق اﻷردن. وفي العشرين من تموز (يوليو) 1951، جرى اغتيال الملك عبدالله في المسجد الأقصى بالقدس، وإعلان اﻷحكام  العرفية، وما تبعها من اعتقاﻻت جماهيرية. وفي خريف ذلك العام، جرت انتخابات نيابية تميزت بالتزييف الفاضح.
ومنذ أيار (مايو) 1951، جرى تدشين معتقل الجفر الصحراوي الرهيب، خصيصا للشيوعيين وأصدقائهم، وراح أبو خليل يغدو "ضيفا" دائم التردد على المعتقل. وفي خريف 1954، جرت انتخابات جديدة، أريد لها أن تكون خطوة تمهيدية لعملية ضم اﻷردن إلى حلف بغداد. وفي هذه الانتخابات، ترشح أبو خليل عن القدس ضمن قائمة لجبهة وطنية أفلح الحزب في إقامتها، كان من مرشحيها المحامي إبراهيم بكر عن رام الله، والدكتور عبدالمجيد أبو حجلة ورشدي شاهين عن نابلس، والدكتور عبدالرحمن شقير في عمان، وغيرهم. لكن التزييف في هذه الانتخابات كان صارخا، ما فجّر مظاهرات صاخبة، قتل خلالها العشرات واعتقل المئات. وبالطبع، كان أبو خليل في الصفوف اﻷولى من المعتقلين.
وفي أجواء ما بعد دحر مؤامرة حلف بغداد، خريف العام 1955، تشكل مناخ سياسي إيجابي في اﻷردن. وفي هذا المناخ، أجريت انتخابات خريف 1956، ونجح فيها أبو خليل نائبا عن القدس، وهو الوافد إليها منذ سنوات قليلة، أمضى قسما هاما منها في السجون والمعتقلات. كانت المنافسة اﻷساسية على المقعد المسيحي بينه وبين ابن القدس المحامي عبدالله نعواس، من قادة البعث، والذي احتل هذا المقعد في الانتخابات المتتالية منذ خريف 1950. وحصل أبو خليل على أكثر من ضعف اﻷصوات التي نالها منافسه.
يعود هذا النجاح المتميز لزيادين إلى اعتبارين أساسيين: اﻷول، سياسي. فقد راحت أوساط متزايدة من الشعب الفلسطيني تدرك صواب موقف الشيوعيين الفلسطينيين من القضية الفلسطينية، حين قبلوا بقرار التقسيم بعد أشهر ثلاثة على صدوره، إذ غدا جليا أن الخيار الواقعي أمام الشعب الفلسطيني لم يعد التقسيم أو كل فلسطين، وإنما التقسيم على إجحافه، أو التشريد. كما يأتي في إطار هذا الاعتبار السياسي تعاطف الجمهور وإعجابه بصمود الشيوعيين، وعدم انحنائهم أمام التضييق الشديد والاعتقالات الموجهة ضدهم.
أما الاعتبارالثاني، فكان اجتماعيا. إذ بعد فصل زيادين من العمل في مستشفى "أوغاستا فكتوريا"، بسبب تحريضه العاملين الصغار فيه على تشكيل نقابة لهم تدافع عن حقوقهم، وافتتاحه عيادة خاصة، غدا أبو خليل معروفا كطبيب الفقراء، وبالإخلاص لمهنته. وقد حدث مرة أن طرق رجل باب بيته ليلا، طالبا أن يصحبه لزيارة مريضة في حي رأس العامود. وفي الحال، ارتدى ملابسه وخرج معه، ليجد آخر في السيارة. وفي الطريق، سأله أحدهما: "أﻻ تخشى الخروج في الليل مع أناس ﻻ تعرفهم؟". فأجاب: "ﻻ أستطيع رفض القيام بواجبي اﻹنساني". والمفارقة أن هذا اﻹنسان كان ينتمي لفئة الميسورين ومواليا للدولة وينتخب، عادة، من يحظى برضى الدولة. لكنه في انتخابات 1956 انتخب مرشح الدولة المسلم عن القدس، ومعه انتخب زيادين المسيحي! وحث آخرين على الاقتداء به.
وفي نيسان (أبريل) 1957، أفلح زيادين في الاختفاء ﻷكثر من عام، وليتم اعتقاله عقب ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 في العراق، حين كان يحاول تغيير البيت السري الذي كان فيه. وفي أوائل ستينيات القرن الماضي، أضرب عن الطعام مع رفاقه في سجن عمان المركزي لمدة اثنين وعشرين يوما، ولم يوقفوا اﻹضراب إﻻّ بقرار جاءهم من قيادة الحزب، التي توصّلت إلى قناعة بأن الدولة غير مهتمة حتى لو توفوا جميعا. وكان يجري إحضار البعض من الجفر لتحقيق إضافي بإشراف الخبير اﻷلماني.
وحين تشكل الحزب الشيوعي الفلسطيني في شباط (فبراير) 1982، في ضوء التطورات التي طرأت على القضية الفلسطينية، كان موقف زيادين عاطفيا نبيلا، يسيطر عليه الحنين لرفقة السلاح والمصير المشترك، وهذا ما ينبغي فهمه.
التقيت به آخر مرة قبل قرابة العام، حين زرته برفقة ابن العم الدكتور عرفات في بيته. فوجدته كما أعهده؛ منتصب القامة كنخلة. ولعل هذا ينسجم مع صدق استقامته في الحياة الصاخبة التي عاشها دفاعا عن مثل الحرية والعدالة الحقيقة.