سؤال الدين والحداثة

منذ نحو قرنين ماتزال أسئلة النهضة والتقدم والحداثة مثارة في البلدان العربية والإسلامية، ورغم طول هذه المدة لمّا تتبلور لدينا بعدُ معرفة عقلية ـ نقدية تفضي إلى بدايات تشكّلٍ لنسختنا الخاصة من الحداثة. ولعل من أهم وأبرز هذه الأسئلة سؤالي الدولة والدين، أي كيف نبني دولة حديثة تحكمها المؤسسات والقانون وتسودها العدالة والحرية، وما دور الدين في الحياة والمجتمع، وما طبيعة علاقته بالدولة والمجتمع. سأركز في هذه المقالة على سؤال الدين.

اضافة اعلان

فإما أن يكون الدين، بما يملكه من رؤية للكون والإنسان والحياة، مهيمنا على المجتمع أو يكون جزءا من المجتمع أو خارج سياق المجتمع ومستبعدا منه. وتقضي التجربة والخبرات الإنسانية إلى استبعاد الاحتمال الأخير؛ لأن للدين تأثيرا في حياة الناس، ومن حق من أراد التدين أن يفعل ذلك، ولقد أصبح واضحا أن الليبرالية والعلمانية لا تعاديان الدين، حتى العلمانية الفرنسية التي اشتهرت بأنها "علمانية غير مؤمنة" بدأت تشهد تراجعات باتجاه الإقرار بدور الدين في الحياة، وتصريحات الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، في هذا السياق قبل أشهر ذائعة وأثارت جدلا مهماً، والعلمانية التركية تواجه توترات مستمرة لموقفها المتشدد من الدين.

 أما أن يكون الدين مهيمنا على المجتمع، ايْ أن تتقدم الهوية الدينية ويكون لها الغلبة على ما سواها، فهذا يتعارض مع رابطة المواطنة، التي ينضوي تحتها المسلم وغير المسلم والمتدين وغير المتدين. كما أن هيمنة الدين على المجتمع تعني في أحد معانيها أن يتصف، كما يرى الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، بصفة "السيادة" أي أن بمقدوره ومن صلاحياته فرض رؤيته على المجتمع، عموم المجتمع.

وحين يكون الدين جزءا من المجتمع ولا يتصف بالإكراه، فهذا يشير إلى الاعتراف به من قبل الدولة، لا أن يكون من يحكم الدولة والمجتمع، فالدين في الحقيقة مصدر من مصادر المعرفة؛ لأن منابع المعرفة متعددة في تاريخ البشرية على الدوام، والنص الديني واحد من هذه المنابع، فهناك منابع أخرى كعلم القانون والسياسة والفلسفة والآداب والفنون والعلوم الطبيعية وغيرها. وحين نلاحظ، كما يرى المفكر الإيراني، محمد مجتهد شبستري "أن الحياة الإنسانية فيها منابع متعددة للمعرفة، والدين واحد من هذه المنابع، هنا تكون تعددية في المعرفة، وعندها لا يمكن أن يقول الإنسان إنني أمتلك تمام الحقيقة، فكل الحقيقة لا توجد إلا عند كل البشر، ولا يمتلكها إنسان واحد، وإنما يمتلكها كل البشر بمجموع تاريخهم وتاريخ المعرفة، وعدم امتلاك الحقيقة من الكتب المقدسة فقط، يُفضي إلى قراءة إنسانية للنصوص الدينية". والقراءة الإنسانية للنص الديني، تقتضي تعددية القراءة، والدين يغتني بمصادر المعرفة غير الدينية، وذلك عبر تحريض النص الديني على إنتاج تأويلات وتفسيرات وأسئلة تقدّم غنىً إضافيا أو متجاوزا للتأويلات السابقة، وهذا مقصود أن تكون مبادئ الدين صالحة لكل زمان ومكان، ومن دون ذلك تكون معوّقا للتقدم والحداثة.

وليس ثمة شخص قديما أو حديثا يمكن أن يجزم أن فهمه أو تفسيره هو وحده دون سواه مقصود النص الديني. وما لم نتجاوز فكرة أن الأقدمين هم الأحسن تفسيرا وأن تأويلهم للنص الديني هو الأكمل وليس لنا أن نتجاوزه، سنبقى نراوح مكاننا في سؤال الدين وعلاقته بالحداثة. ويرد الباحث المصري، نصر حامد أبو زيد، على من يقول إن المعاني التي طرحها السلف هي الصائبة لأنهم كانوا أقدر على الفهم من الأجيال التالية، ولأنهم أكثر تقوى ممن جاء بعدهم بقوله:"إن ادعاء أن السلف كانوا أكثر فهما ادعاء يفترض أن المعرفة لا تتقدم، وهو بالإضافة إلى ذلك يتجاهل حقيقة أن فكر السلف متاح لنا، بالإضافة إلى أن ما يمنحنا إياه الزمن من تراكم معرفيّ لم يكن متاحا للسلف، ويظل سؤال "التقوى" مطلبا علميا ومعرفيا أخلاقيا ومن الصعب اختصاره في المعنى الكلاسيكي".

وعندما ننظر إلى الدين كجزء من المجتمع، وأن رابطة المواطنة تتقدم على الرابطة الدينية، وحين ننظر إلى الدين كمصدر من مصادر المعرفة وليس حكرا للمعرفة، فإن من دلالات ذلك ترك ومراجعة الادعاء بأننا مكتفون فكريا وثقافيا وحضاريا بما لدينا. وقد مال أكثرية من أعلام النهضة والتحديث الأوائل في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى أن ما نحتاجه من الغرب هو التقنية والتكنولوجيا وتفوقه في التنظيم السياسي (مؤسسات الدولة)، ورأوا، باستثناء أقلية منهم، أن الدين يقدّم معرفة كاملة وكافية في باقي الميادين، وهو رأي مغلوط يتجاهل أن قوة الغرب تكمن في الأفكار التي أنتجها وفي نظرته للفرد ككائن لديه إرادة حرة مستقلة، وفي إعلائه من قيمة العقلانية، وفي أن "الدولة" والتكنولوجيا هما نتاجا حركة اجتماعية واقتصادية وفكرية أفرزت مثل هذه التنظيمات، التي اوجدت حلولا للإشكالات والتطورات التي كانت راهنة في تلك المجتمعات.

والأخذ برأي أن الدين جزء من المجتمع، وليس مهيمنا عليه أو سيّدا على عموم أفراد المجتمع، يردّ على "المركزية الغربية" التي تجعل من نفسها معيارا وحيدا للتقدم والحضارة والحداثة، ولكن ردّ الدين هنا (بوصفه جزءا لا مهيمنا) لا يكون عبر ادعاء "مركزية" من نوع آخر تقدّم معايير الصواب والصلاح والخير، وتحكم على الناس والمجتمعات وفقا لها.

قصارى القول، إن مقاربة سؤال الدين والحداثة عبر تبني أن يكون الدين جزءا من المجتمع فيه صيانة لرابطة المواطنة، ولحرية التعبير والمعتقد، وفيه منع لاحتكار الصواب أو الحقيقة بوصف الدين جزءا من الحقيقة ومصدرا من مصادر المعرفة، كما أن في هذا التبني اعترافا بقصورنا الفكري والمعرفي، ما يعدّ محرّضا على الحداثة لا معوّقا لها، ناهيك عن أن هذا التبني يقرّ بدور الدين في الحياة والمجتمع ولا يستعديه، بشرط ألا يكون دوره مهيمنا أو إكراهيا أو سلطة احتكار للمعرفة والصواب.