سارقات المشمش في بيرزيت

كنت أقرأ في كتاب سحر خليفة الجديد، "روايتي لروايتي"، الذي تتحدث فيه عن جزء من سيرتها الذاتية، وتحديداً قصص رواياتها وما اتصل بها من أحداث في حياتها الشخصية أو حولها، عندما قرأتُ وسمعتُ عن ثلاث سيدات عُرفنَ بسرقة المشمش من بساتين قرية جفنا، التي تتوسط بيرزيت ومخيم الجلزون، جرى تكريمهن هذا الأسبوع، ووجدت ما هو مشترك بين قصة خليفة وقصتهن.اضافة اعلان
في العام 1992، أعطاني صديق من أبناء أحد مخيمات اللاجئين، وكان حينها منتميا لفصيل فدائي، رواية سحر خليفة، "باب الساحة"، وقال لي: هذه الرواية غيرت حياتي، علمتني أن الوطن هو الإنسان أولاً، وأن الوطن لا يكون ذريعة لاضطهاد الإنسان، "باسم القضية". وأخذت الرواية، وقادتني لقراءة روايتها الواحدة تلو الأخرى، ولأن أعرف عن حياتها القليل، من مثل أنها ابنة نابلس، وعادت للجامعة بعد سنوات طوال من الانقطاع بسبب تجربة زواج فاشلة، قادتها إلى ليبيا.
سأعود للكتاب في مقال منفصل، ولكن مقال اليوم هو عن "مشمش بيرزيت". فبعد تعلم سحر الطباعة سراً عن زوجها المقامر، في ليبيا، والعمل في وظائف سكرتاريا أحدها في السفارة النجيرية، ثم الطلاق والعودة بابنتين لنابلس، وأدخلتهما إلى المدرسة، ثم قالت لثلاث صديقات "سأذهب لكلية بيرزيت لأتعلم وآخذ شهادة، ثم وظيفة". فوجئت الصديقات وقلن لها إنها مثقفة وتقرأ، فلماذا التعليم؟ واتسعت الدهشة عند قولها إنها تريد قِراءة موجهة هادفة تمكنها من التحول إلى "روائية معتبرة". وسألن كيف تجلسين بجانب طلاب بعمر أبنائك؟
كانت إحدى الصديقات جامعية، أيّدتها وقالت لأختها، وكانت في الأربعينات وكرست حياتها لإخوتها بعد وفاة أمها لماذا لا تذهبين معها؟ جفلت الأخت، وأطرقت، ثم رفعت عينيها فيهما دمعتين "شفافتين"، وقالت "معلش يعني؟" وتعانقت الأختان. وبعد ساعات اتصلت الصديقة الثالثة، وقالت سأذهب معكما، شجعني زوجي وقال لماذا لا أذهب أيضاً؟.
كنت أريد كتابة مقال بعنوان "فارسات بيرزيت الثلاث"، فهذا كان لقبهن في بيرزيت، العام 1972، ولم تبخل عليهن الجامعة؛ قبلتهن في التعليم ووجدن ترحيباً "في المسابقات الفنية والثقافية، والشعر، وتنسيق الزهور، والمسرح والغناء والرقص"، وانفتحت آفاق التعليم، من دون "تابوهات"، فكتب هشام شرابي عن أبوية "المجتمع العربي"، وكتب نوال السعداوي عن المرأة والتمييز والجنس والروايات لا تدرس فقط، بل ويكون الامتحان البحث باستخدام النظريات في فهم المجتمع المحيط. وأعفيت سحر من الأقساط لتفوقها، وأعطيت وظيفة في مجلة الجامعة "الغدير".
قررت تغيير عنوان المقال، عندما احتفلت الجامعة هذا الأسبوع بمنح السيدة هناء خوري زريق (88 عاما) من مدينة الناصرة، شهادة أنها أتمت الصف الثالث الثانوي في مدرسة بيرزيت في العام الدراسي 1947-1948، وأن ظروف الحرب حالت دون إكمالها الصف الرابع الثانوي، صف التخرج آنذاك، وسلمها الشهادة رئيس الجامعة، في حفل صغير. واقتبس العنوان ووصف الحدث من صديقي وزميلي عماد الأصفر، فبمناسبة الحفل دعيت صديقتان زاملتا هناء، هما سامية ناصر (86 عاما) وريما ترزي (88 عاماً)، فتذكرن كيف كن يسرقن المشمش من شجر أهالي قرية جفنا القريبة، وأن عقوبة الشلن لم تردعهن عن تكرار الفعل، فعقابتهن المديرة نبيهة ناصر، بشرب زيت الخروع.
وهي تستلم شهادتها نظرت لأحفادها وبناتها الذين أتوا من الناصرة، ولطالما حدثتهم عن سنواتها الثلاث في بيرزيت، وقالت موجهة لهم حديثها "هذه بيرزيت" التي كنت أحدثكم عنها. ولم تتوانَ وهي تجلس مع صديقتيها أن تنشد طويلا، فبيرزيت لا تقمع من يريد النشيد: "تراني أعود؟ فعبر الحدود دياري ومهد صباي.. لا لن يطول بعدي وسوف أبصر عودي، نعم سأعود وتفنى القيود..".
لعل شهرة المشمش أنّه يأتي لوقت محدود في العام فيجري تحذير من يعيش سعادة أو نجاحا أنها حالة مؤقتة مثل "جمعة مشمشية". ولكن للمقولة معنى آخر في بيرزيت، وعند أولئك السيدات، هو أنّ المشمش فرصة من حقهن ولو أتى متأخراً، وأنّه يستحق لأنّ طعمه يدوم؛ حتى تخبر هناء أحفادها عنه، وحتى تكتب الدكتورة سحر خليفة، صاحبة الروايات التي تُرجمَت لأكثر من 15 لغة، متسائلة، أنها لولا ظروف حياتها الخاصة والاحتلال "ولو لم أتدرب على يد أساتذة بيرزيت وأجوائها التنويرية، هل كنت سأكتب رواياتي بذلك الشكل..؟".