ساعة في حضرة محمود درويش..!

أحد أساتذتي كان صديقاً لمحمود درويش، ونقل إليه عنّي وجهة نظر شخصية كنت تداولتها معه -وتتعلق بمحمود أيضاً. كانت فكرتي: إنك قد تجد في نفسك شيئاً من الشعر، وقد تفكر بأن تصبح شاعراً. لكنك إذا قرأت درويش كثيراً وأغرقت فيه، احتلك، وصادر صوتك. فإذا كتبت، انسلّ إلى نصك دون أن تراه. وإذا أفلتَّ مرة وكتبتَ نفسك، فإنك ستجده في داخلك يتأمل نصك، وكأنه يحثك على مقارنة قصيدتك بقصيدته، فتبتئس. وقد يعصمك حبك إياه من الغيرة منه، لكنك تضع "قصيدتك" في الأدراج.اضافة اعلان
وأعتقد بأنّ كثيراً من الشعراء الذين عاصروا درويش، وقرأوه جيّداً، أحسّوا بشيء من ذلك –هنا أو هناك- في خبرتهم الإبداعية. وربما كانت "أنا" الشاعر الكبيرة فقط هي التي شجعت كثيرين على عرض أصواتهم معه في سوق الشعر. بعضهم لم يعبأ بظهور محمود قاعداً بوضوح في قصيدته؛ وبعضهم أفلت منه ولم يصل إلى الإغراق فيه، أو ناجز سطوته وتغلب عليها؛ وكثيرون قالوا لأنفسهم ولغيرهم: "أنا أشعَرُ من درويش، بل هو الذي يسطو على نصي!"، واستعانوا بهذه النرجسية العالية في مداورة عبثية المنافسة.
وفي الحقيقة، هذا ما يجب. فليس منطقياً سكوت الجميع عن قول الشعر طالما ظل "مالكُ في المدينة". وقد اتسع المشهد لشعراء جميلين آخرين وأصحاب أصوات خاصة، ولو أن ربّات الشعر أفردن لمحمود درويش مساراً مخصوصاً عالياً وغير دائري، ظل يستكشفه وحده. وكان هو يقرأ شعر الآخرين، فيعجبه شيء ولا يعجبه شيء، ولم يكن يرفض –كما يعرف المتتبعون لعمله- فكرة التأثر الطبيعي بشاعر كبير أو نصّ كبير، لكنّه امتلك عبقرية استلهام الفكرة وإعادة إنتاجها، وبحيث يكون الحاصل دائماً ذلك الصوت الطاغي بنبرته المتفردة: صوت محمود درويش.
عندما عرَف درويش رأيي، أرسل إليّ مع أستاذي نسخة من ديوانه الذي كان حديثاً آنذاك "لا تعتذر عمّا فعلت" وجاء في إهدائه: "... لا تعتذر عمّا كتبت، وحاول مرة أخرى". وكان ذلك الانتباه الذي أسعَدني بداية التأمل في الكفّ عن الاعتذار عمّا كتبت. لكنني تذكرت دائماً حكمة أستاذ الشعر القديم الذي نصح تلميذه بحفظ ألف بيت من الشعر، ثم نسيانها، قبل أن يقول شعراً. كيف ينسى أحدٌ ما حفظه لدرويش.!
جاءت المناسبة الخاصة، عندما فاجأني أستاذي بأنه رتّب لكي أصحبه لزيارة محمود درويش في ذلك المساء. وذهبت مع أستاذي إلى بيته متهيباً ومسكوناً بالتوقُّع. وقد استقبلنا وحيداً. ورأيته هذه المرة بسيطاً وقريباً، وليس بعيداً ومستغرقاً في تلاوة الشِّعر على المسرح كما اعتدت أن أراه. وعندما اقترح أن نشرب القهوة، سألته شيئاً عن قهوته. قلت إنه كتب فقرات في "ورد أقل" عن التفاصيل الصغيرة في صناعة ركوة قهوة -ربما ليقتل الوقت البطيء وهو محاصر في بيروت المقصوفة بالموت حينذاك. قلت إن ما كتبه أصابني بالفضول إزاء القهوة التي يصنعها بكل ذلك التجلي. ضحك، وقال إنه ليس عليّ أن أتوقع الكثير، فتلك قهوة شِعر. قال إن القهوة مجرد قهوة. وكانت قهوته التي صنعها بنفسه عاديّة فعلاً، وليست ألذّ قهوة شربتها في حياتي، وقد اضطررت –مجاملة- إلى شربها مُرة مع الأستاذين، وخجلت من طلب قهوة ببعض السكر.
ومضى الحديث دنيوياً وعادياً في تلك الساعة من الزمن، ولا أتذكر معظمه. لكنني أتذكر جيداً ما قاله محمود درويش وهو يودعنا عند الباب. قال لي وهو يشدُّ على يدي إنني يجب أن أكتب. قال إنّه لا ينبغي أن يخاف الناس منه فلا يكتبون الشعر. قال إنه يجب أن يكون هناك دائماً مَن يكتب، لأنّ محمود درويش في النهاية، سوف يموت.
قالها ببساطة جارحة. وأردتُ في ذكرى رحيله الرابعة التي عبرت قبل أيام أن أكتب -وليس شِعراً بالضرورة- عن ذلك المساء الخاص في حضرته، وأن أنقل وصيته للأحياء بأن لا يكفّوا، ولا يعتذروا عن الكتابة.

[email protected]