سقط البشير.. لكن الدولة لم يتم إنقاذها بعد

648810-01-08
648810-01-08

هآرتس

تسفي برئيل

اضافة اعلان

14/4/2019

مؤخرا وبعد أن تم اسقاط رئيس السودان عمر البشير من منصبه، يمكن تخيل قضم أظافر المحللين ورؤساء اجهزة الاستخبارات في اميركا وروسيا والصين والسعودية ومصر واسرائيل. جميعهم يعرفون جيدا النخبة العسكرية في السودان. الكثيرون منهم، ومن بينهم رئيس الموساد يوسي كوهين، التقوا مع رئيس المخابرات السوداني صلاح كوش ومع وزير الدفاع عوض بن العوف. عدد منهم عملوا لفترة طويلة مع عمر البشير الذي قضى ثلاثة عقود من السلطة الديكتاتورية وتم وضعه الآن رهن الاعتقال. الى جانب قيادة جيشه ومخابراته كان الرئيس المعزول دعامة قوية من خلالها أدارت هذه الدول مصالحها الامنية في شرق افريقيا.
ليس دائما كانت هذه الدعامة ثابتة: علاقة الولايات المتحدة مع الخرطوم مثلا سارت مثل قطار الجبال. الانقلاب العسكري الذي قام به البشير في 1989 ضد الرئيس المنتخب بشكل ديمقراطي، صادق المهدي، اعتبر وبحق بداية عهد مهدد. التحالف العسكري – الاسلامي الذي انضم فيه الى البشير وضباطه المفكر الديني حسن الترابي، رجل الاخوان المسلمين ورئيس الجبهة الاسلامية القومية، ربط السودان باسامة بن لادن الذي كان يقيم في السودان بين 1990 و1996 (الى أن طرد منه بضغط من الولايات المتحدة). الشريعة الاسلامية كانت دستور الدولة. وبنية النظام استندت الى لجان محلية تم تشكيلها في ولايات السودان وارسلت ممثليها الى البرلمان حسب نموذج معمر القذافي في ليبيا.
في الغرب خافوا من أن السودان يتحول الى ايران ثانية، والعقوبات عليه لم تتأخر. مع ذلك، قبل سنتين تقريبا رفعت كل العقوبات وسارعت الـ سي.آي.ايه بفتح احد قواعدها الكبيرة في الخرطوم. إن انقطاع السودان عن ايران وانضمامه للتحالف العربي الذي يحارب في اليمن برئاسة السعودية، غذى خزينة الدولة بـ 2.2 مليار دولار، دفعتها السعودية ودولة الامارات. اضافة الى ذلك، قرب اكثر السودان من الدول العربية المؤيدة للغرب. آلاف الجنود السودانيين ارسلوا الى القتال في اليمن. والبشير الذي يوجد ضده أمر تسليم من محكمة الجنايات الدولية من العام 2009 (بتهمة جرائم حرب نفذها في دارفور)، بدأ يخرج من قصره والتجول في الدول العربية والاسلامية. ومن بين جولاته كان هو الزعيم العربي الاول الذي قام بزيارة دمشق في كانون الاول الماضي، وبهذا وضع الاشارة على بداية الصدع في المقاطعة العربية التي فرضتها الجامعة العربية على بشار الاسد. كانت روسيا هي التي دفعت البشير الى دمشق مقابل مساعدة سياسية واقتصادية لأنها ارادت اعادة بناء شرعية نظام الاسد في النظام العربي. بعد ذلك ظهرت في العاصمة السورية شخصيات من دولة الامارات والبحرين.
مصر في المقابل، تعاملت مع البشير بشك وحتى بعداء: الرئيس السوداني أيد اثيوبيا في النقاش حول تقسيم مياه النيل واتهم مصر بسرقة حصة السودان من المياه. وبموازاة ذلك كان الصراع على السيطرة في مثلث حلايب الذي يقع على الحدود بين مصر والسودان، كان عاملا ثابتا للمواجهة بين الدولتين. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي شن حرب شديدة ضد الاخوان المسلمين عند توليه الحكم في 2013، كان له صراع ايديولوجي ايضا مع البشير الذي يعتمد على الاخوان المسلمين في دولته. حسب ادعاء مصر، هو اعطى ملجأ لنشطاء الحركة الذين هربوا من مصر.
رغم هذه الخلافات فان التحالف مع السعودية اجبر مصر على التعامل مع البشير كحليف. في بداية هذه السنة عندما التقى السيسي مع رئيس فرنسا عمانوئيل مكرون أعلن رئيس مصر "اذا تم عزل البشير من الحكم بدون استعداد مناسب، فان السودان سيكون دولة اخرى فاشلة". السيسي مثل قيادة السعودية، يعتبر كل احتجاج مدني تهديد لاستقرار الدولة. عندما يقف على الاجندة سؤال هل يفضل تأييد عملية ديمقراطية أو استمرار السلطة القائمة، "الاستقرار" يملي تأييد الخصم المعروف بدل المخاطرة بـ "فوضى تأتي بعد ثورة الربيع العربي"، كما وصف السيسي نتائج الثورة في بلاده. ورغم ذلك قال أمس السيسي بأنه يؤيد ارادة الشعب، واضاف بأنه من حق شعب السودان تقرير مصيره بدون أي تدخل أو ضغط من الخارج. من المهم معرفة موقفه اذا منح "الشعب" تأييده لحزب المؤتمر الاسلامي.
اسرائيل هي لاعبة ثانوية في الساحة السودانية. ومصادر اجنبية قالت إنه الى جانب هجماتها ضد قوافل السلاح التي جاءت من ايران الى غزة عبر السودان، هي ايضا اقامت علاقة وثيقة مع منظمات سودانية، منها حركة تحرير السودان وحتى نظام البشيرـ عندما ارادت المساعدة في احضار يهود اوروبا الى اسرائيل. في السابق وردت تقارير تقول إن مبعوث من اسرائيل اجرى اتصالات مع نظام البشير لفحص امكانية انشاء علاقات مع اسرائيل. المتحدث بلسان حزب السلطة، د. ابراهيم الصديق، قال ردا على ذلك في موقع "سبوتنيك" الروسي بأنه ليس هناك ما يتم الحديث عنه بشأن التطبيع مع اسرائيل وأنه لا يوجد لاسرائيل مكان في السودان. "يوجد لاسرائيل 38 منظمة عاملة في دارفور. وزعيم جبهة تحرير السودان زار اسرائيل عدة مرات"، اضاف. كما أنه قال إن اسرائيل هي التي اثارت "مسألة دارفور"، ولم يفسر قصده.
في المقابل، نشر باحثون من السودان مقالات تؤيد التقارب مع اسرائيل بسبب المصالح الاقتصادية التي توجد للسودان في الخروج من العزلة الدولية. مؤخرا، كما قلنا، نشر موقع "ميدل ايست آي" أنه ايضا رئيس الموساد يوسي كوهين التقى في ميونيخ مع رئيس المخابرات السوداني وبحث معه امكانية تغيير النظام في السودان.
ليسقط الآخرون ايضا
شبكة المصالح الدولية هذه تمر الآن بهزة قوية في اعقاب عدم اليقين حول مستقبل القيادة العسكرية والسياسية في السودان. يتبين أنه ايضا قريبا، الضباط الذين قاموا بعزل البشير، لا يوجد بينهم تناغم مدهش. بداية عين وزير الدفاع عوف نفسه رئيسا للمجلس العسكري الذي يمكنه ادارة شؤون الدولة مدة سنتين. الى جانبه كان يجب أن يكون الجنرال كوش، وقائد شرطة السودان وقائد قوات التدخل السريع الجنرال محمد حمدان. ولكن حركات الاحتجاج استأنفت المظاهرات التي فيها شارك الملايين في ارجاء الدولة، وطلبوا نقل شؤون الدولة على الفور الى حكومة مدنية مؤقتة تقوم بصياغة دستور جديد واجراء انتخابات ديمقراطية.
أمام هذا الاحتجاج قرر عوف الاستقالة. وحل محله الجنرال عبد الفتاح برهان، المراقب العام للجيش. ولكن تعيين برهان لم ينجح في تهدئة الشعب الذي يسعى الى استغلال نجاحه في عزل البشير وعوف. "ليسقط الآخرون ايضا"، كتب على لافتات المتظاهرين. والقصد هو أن كل الجهاز العسكري الاعلى يجب أن يعود الى قواعده. في نهاية الاسبوع تمت صياغة مطالب مفصلة اكثر منها عقد محاكم خاصة لمحاربة الفساد وتقديم البشير وزمرته للمحاكمة وتعديل الدستور واجراء حوار وطني يشارك فيه كل شرائح السكان وطرح خطة لاعادة اصلاح الوضع الاقتصادي الصعب في الدولة الذي كان الذريعة الاولى للاحتجاج الذي اندلع في كانون الاول الماضي.
هذه الطلبات دفعت جنرالين آخرين، كوش وحمدان الى الاستقالة من المجلس العسكري – يبدو من اجل محاولة تبريد سخونة المظاهرات. ولكن حسب تقارير من السودان يبدو أن القصد ليس تهدئة رأي الجمهور، هو الذي دفع هؤلاء الضباط الى الاستقالة. حمدان أهين لأنه لم يعين نائبا لرئيس المجلس العسكري، في حين أن كوش الذي يطمح بأن يكون رئيسا للسودان غضب لأنه لم يعين رئيسا للمجلس العسكري. وحتى أن حمدان "اجتاز الخطوط" واعلن أنه يؤيد طلبات المتظاهرين، ويجب عدم الانتظار لسنتين حتى تشكيل حكومة مدنية، لأنه يمكن تشكيلها خلال نصف سنة على الاكثر. التوتر بين اعضاء المجلس العسكري هو فقط خلاف من الخلافات التي تميز قوات الامن في السودان – بين الشرطة ومليشيات حرس الرئاسة، وبين القوات النظامية والقوات المحلية. هكذا مثلا، اثناء الاحتجاج صد الجيش اجهزة الامن الاخرى ومنها الشرطة ومنعها من استخدام النار الحية ضد المعتصمين قرب قصر الرئاسة ووزارة الدفاع. للحظة اعتبر الجيش "صديقا للشعب" الى أن اصبح هدفا آخر لمهاجمة الاحتجاج الشعبي.
التطورات المتغيرة في كل ساعة ما زالت تبقي اساسا واحدا ثابتا معه سيضطر الى التعاطي كل نظام سيكون في الدولة: الازمة الاقتصادية الشديدة، التي خلقت في البداية الاحتجاج (بسبب مضاعفة سعر الخبز بثلاثة اضعاف وتقييد سحب الاموال اليومية الى عشرة دولارات). ورفع اسعار المنتجات بعشرات النسب المئوية. صندوق النقد الدولي يتوقع ارتفاع الاسعار بنسبة 50 في المائة على الاقل، ويقدر الدين الوطني للسودان بأكثر من 51 مليار دولار، 88 في المائة من الناتج القومي. نسبة البطالة بلغت 70 في المائة، ومعطيات البطالة تقاس بعشرات النسب المئوية.
السودان الذي فقد ثلاثة ارباع حقول النفط عند الاعلان عن استقلال جنوب السودان في 2011، يحاول الحصول على القروض والهبات. هذا الاسبوع توجه بدعوة للمساعدة من الدول المجاورة. ولكن في هذه الاثناء الاستجابة ضئيلة. السعودية ودولة الامارات اللتان رعتا نظام البشير دخلتا الى موقف انتظار حتى يتبين من الذي يسيطر على الدولة. قطر التي ساعدت في السابق اليمن اوقفت المساعدة بعد تحالف السودان مع السعودية. صندوق النقد الدولي لا يمكنه تقديم مساعدة للسودان بسبب العقوبات الاميركية التي ما تزال تفرض على الدولة. ولكن حتى لو رفع هذا القيد، فان الشروط القاسية لصندوق القروض للدول المحتاجة، التي تتضمن بشكل عام المطالبة بنظام ديمقراطي وحماية حقوق الفرد واصلاحات اقتصادية عميقة، يمكنها أن تزيد شدة العصيان المدني.
في هذا الوضع الصعب، اذا لم يحصل السودان على دعم السعودية، فمن شأنه أن يعيد تغيير حلفائه والتوجه لايران من اجل طلب المساعدة. لا يوجد أي ضمانة بأن تقوم ايران، التي هي نفسها توجد في ازمة اقتصادية، بالموافقة على دعم السودان أو يمكنها القيام بذلك. ولكن هذا بالنسبة لها سيكون فرصة من اجل الحصول على رافعة تأثير بثمن رخيص نسبيا. من يخشى من انجرار السودان الى اماكن نفوذ ايران مطلوب منه الآن فتح المحفظة من اجل استقرار الدولة. ولكن هذه دائرة شيطانية لأن استقرار الدولة عندما يكون الجيش هو الذي يسيطر عليها، يعني فقدان احتمالية الديمقراطية. ومن سينتظر الى أن تثمر العملية الديمقراطية يمكن أن يفقد السودان.