سمك لبن تمر هندي!

بصراحة وحين تتعاظم الأمور وتتشابك الأخبار، كما يحدث هذه الأيام من حولنا، أشعر بالأسى على الصحفيين والمراسلين والمحللين والمراقبين، في القنوات الفضائية والصحف، والكتاب، الذين يحملون عبئا متعاظما على أكتاف مسؤولياتهم، أمام مجتمع واسع من جمهور يحول بوصلته مباشرة اليهم، كقادة رأي يعتد بهم ومصدر معلومة شبه مؤكدة تروي عطش أسئلتهم الكبيرة.اضافة اعلان
وعلى الرغم من أن فضول المتابعين للاستزادة من المعلومات المتدفقة، يعد آخر الاهتمامات على سلم الأولويات بالنسبة لمن هم واقعين تحت مقصلة الحدث، سواء من المتضررين الكبار “المفاجأة”، أو مفجري الألغام في البحور الراكدة لعقود مضت، يظل هوس المعرفة والاطلاع عن كثب سيد موقف البقية المتبقية من الناس، وهم كثيرون جدا!
وعلى سيرة سادة المواقف، فإن الارتباك الواضح في الروايات الإعلامية الناقلة بعواجلها وأخبارها واستوديوهاتها المفتوحة، يثير ريبة السؤال المخجل؛ أين اختفى حق الحصول على المعلومة؟ وحتى يكون السؤال منطقيا أكثر وملائما لهوية الإعلام العربي، فإنه يتحول إلى: أين يختفي حق الحصول على المعلومة، حتى بعد أن تقع الواقعات بساعة، بيوم، بأيام، وبسنوات؟
يعود الأسى من جديد على كتابنا ومحللينا وصحفيينا، الذين يطيرون كعمال خلايا النحل، من أجل أن يتصدروا مشهد المعرفة ويتسيدوا شاشات التصريحات الجاذبة الرنانة، برضاهم أو بعدم رضاهم، يملأون ساعات البث قراءات متعاقبة وتحليلات متضاربة، فقط لأنهم المؤهلون حسب تصنيف التوزيع الأفقي للمصادر، للخوض في غمار الموضوع. ثم وبعد حين ليس ببعيد، وبعد كد وتعب وامتصاص لرحيق ما يتوفر من الزهر، يصلنا العسل النقي بشهده من وثائق مسربة من الغرب تمحو كل ما سبق، بكبسة زر!
عودة سريعة لأحداث لا تقل أهمية مرت بها منطقتنا العربية خلال السنوات الفائتة، وما صحبها من مهرجانات الإعلام والسياسة والمجتمع، ومسابقات تمكين روايات على روايات، لعبتها بغير اقتدار قنوات الإعلام العربية، متسلحة بأسماء خبراء ومهنيين وشهود عيان، تضرب في مقتل القصة الإعلامية العربية القائمة على التخمين والإحساس والتحليل غير العلمي ولا الأدبي بالمناسبة، لتفندها بعد فوات الأوان، القصة الحقيقية من تأليف وإنتاج شركة غربية صانعة للألعاب. وكل ذلك مرده فقط المنع الغريب العنيد لحق الإعلام في الحصول على المعلومة.
كل الانقلابات الحاصلة اليوم، والتي طالت حاشية السلطات وحواشيها كافة؛ الدساتير، القوانين، المسلمات، البورصات، المواقع، الكراسي، التحالفات، المعاهدات، كلها أصابها خريف التغيير ما عدا الإعلام، في إمعان متقصد لعدم احترام هذه المهنة وهذه الرسالة، لتظهر في التخبط الذي نشاهده اليوم وتبدو مسكينة عليلة مرتبكة، فلا يكترث إليها المجتمع، ولا يصدق ما تقوله حتى لو اقترب من الحقيقة.
سمك لبن تمر هندي، هو خلطة الإعلام العربي هذه الأيام والأيام التي خلت، أساسه غياب المعلومة وتخبئتها لحين ضربة إعلامية غربية، تعرف كيف تحصل عليها، بمجرد أن تطلبها فقط. هذا التخبط مقصود حتى تفترش روايات العامة عبر الشاشات الزرقاء، كل المساحات، فتضيع الواقعة بأحداثها الحقيقية في جدال عقيم يقوده “مفكرو مواقع التواصل” ويصير مرجعا وحيدا للمعرفة، وللبناء عليها.
المصيبة أن ما يبنى على هذه المعرفة المخلخلة دراسات وإحصائيات وكتب ومؤشرات، تقود إلى نظريات يعتمد عليها أكاديميون وقادة رأي، لإعادة صناعة متوالية الإضطراب الإعلامي.