معظم من كتبوا من الباحثين والسياسيين المحايدين عن الحياة السياسية في سورية ما بعد الاستقلال (1946)، اتفقوا على أن تسييس العسكر وعسكرة الساسة كانا قاسمها المشترك والدائم في جميع مراحلها؛ لازمها منذ الانقلاب الأول للجيش الذي قاده حسني الزعيم العام 1949، وحتى انقلاب حافظ الأسد العام 1970 الذي سمي الحركة التصحيحية، وجاء بحكم عائلة الأسد الذي ما يزال قائماً منذ ما يزيد على أربعين عاماً.
رحلت فرنسا عن وضع سوري سياسي هش ومفكك؛ أحزاب ومؤسسات مدنية شكلية، وهياكل وإدارات حكومية ضعيفة. ولم يكن الوضع في الجيش مختلفاً عنه في الأجهزة الأخرى التي تدير الدولة من حيث ضعفه الهيكلي، فضلاً عن افتقاره للتسليح والتدريب. أما ضباطه، فغالبيتهم تنحدر من الفئة الوسطى وأبناء الفقراء والفلاحين الذين تعذر عليهم الالتحاق بالجامعات، فوجدوا في الانتساب للكلية العسكرية فرصتهم الوحيدة لتحسين أوضاعهم الاجتماعية.
فشلت الأحزاب والشخصيات السياسية منذ الاستقلال وحتى ما قبل الوحدة مع مصر العام 1958 في تحقيق ائتلاف تحكم به البلاد توافقياً، ويوفر لها الاستقرار والتنمية. وانغمست القيادات الحزبية في خدمة مصالحها الخاصة، واستبدلت الأحزاب لغة الحوار والتوافق بالصراع المستميت على السلطة كل حزب يريد الاستئثار بها لنفسه. ولم تكد تمضي سنوات ثلاث على الاستقلال حتى كانت الأحزاب قد فقدت شرعية الإنجاز، بالإضافة لخسارتها شرعية التمثيل التي أتى عليها تزوير الانتخابات.
الجيش الذي لم يكن استثناء في وضعه وإدارته عن باقي مؤسسات الدولة، لم يكن أيضاً بمعزل عما يجري على الساحة السياسية في البلاد. وقد بدا في ظل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أحاطت بالسنوات الأولى من الاستقلال قلقاً ومستفزاً. وجاءت هزيمته المبكرة على الجبهة في حرب 1948 لتزيد من أمره سوءاً. وفي ضوء السجال الطاحن حول مسؤولية الهزيمة والاتهام المتبادل بين السياسيين والعسكريين بالتسبب فيها، ذهب الجيش مدفوعاً بكل ما سبق للانقلاب على الحكومة ليصبح شريكاً في اللعبة السياسية، بل ولاعباً أساسياً لاحقاً.
في الاتجاه المعاكس بدأ السياسيون بالتحالف مع ضباط الجيش، وصار لكل حزب ضباطه حتى انقسم الضباط على أنفسهم ليس بالرأي فقط كما كان يحصل سابقاً، وإنما في الولاء للسياسيين والأحزاب هذه المرة. وكما كانوا ينقلبون على الحكومات فيما مضى، صاروا ينقلبون على بعضهم بعضا. وتكاثرت الانقلابات، ففي خلال تسعة أشهر من العام 1949 وقعت ثلاثة انقلابات (حسني الزعيم، وسامي الحناوي، وأديب الشيشكلي). وعاود الشيشكلي في العام 1951 الانقلاب على الحكومة التي تشكلت إثر انقلابه الأول العام 1949. وفي العام 1954 انقلب عليه مصطفى حمدون، لتنتهي حقبة الانقلابات الأولى التي غطت الفتره 1949-1954.
استؤنفت الانقلابات بعد الوحدة مع مصر العام 1958. فجاء انقلاب الانفصال العام 1961، ثم الانقلاب البعثي الأول العام 1963 وقاده صلاح جديد وحافظ الأسد ومحمد عمران. وأعاد جديد والأسد الانقلاب على رفاقهما العام 1966. وكان خاتمة الانقلابات لحافظ الأسد العام 1970، وكان انقلاباً عسكرياً بحتاً على الحزب، وعلى رفيقه صلاح جديد الذي كان استحوذ على ثقة كامل المؤسسات الشعبية والقيادات السياسية للحزب. وقد أسس انقلاب الأسد 1970 لبداية عهد حكم عائلة الأسد كحكم عائلي عسكري بامتياز، دان الجيش فيه لقيادات من الأقليات وعلى رأسها ضباط الطائفة العلوية. وتشكل نسيج السلطة لاحقاً من العائلة ومن الجيش الذي تقوده الطائفة العلوية، ومن رأسماليي دمشق وحلب.