سيوف المسلمين الثقيلة على الإسلام

يقدم أبو الفتح الشهرستاني في مؤلفه الشهير "الملل والنحل"، أبلغ الخلاصات عندما يقول: "ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية، كما سُلّ في موضوع الإمامة". وأنا اقيس على قوله وأقول: ما سُلّ سيف على الإسلام أبداً كما سُلّ عليه سيف المسلمين أنفسهم. فقد سل المسلمون سيوفهم على الإسلام مرتين، وكما لم يسله عليه ألد أعدائه حتى يومنا هذا، لتترك هذه السيوف بدينهم وبأنفسهم جراحاً لن تندمل آثارها أبداً.اضافة اعلان
سل المسلمون سيوفهم على الإسلام أول مرة عندما اختلفوا على الزعامة السياسية؛ "الخلافة" أو "الإمامة"؛ وجاء اختلافاً لا سلام فيه، ولا تسامح، ولا رحمة، رغم أنه كان بين الصحابة الأقربين إلى النبي عليه الصلاة والسلام. فذهبوا إلى سيوفهم يشرعونها ويحتكمون إليها بدلاً من الاحتكام إلى الشورى والحوار؛ فلا المتقاتلون من الصحابة احتكموا لأمر الله تعالى بالشورى، ولا الذين نأوا بأنفسهم عن القتال، وهم من الصحابة الأقربين أيضاً، عملوا على الصلح بين المتقاتلين، مخالفين صراحة قوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما".
ثم سلّ المسلمون سيوفهم على الإسلام ثانية ساعة شرعوا يسيسون الدين. فراح المتقاتلون لخلافات سياسية على "الخلافة" أو "الإمامة، وهم من الصحابة الأقربين، يبحثون عن الأدلة الشرعية؛ كل فريق يحاول أن يجد أو يختلق سنداً له في النصوص الكريمة أو الأحاديث الشريفة. وإذ بالإسلام يتفرق إلى طوائف ومذاهب شتى، ويتفرق من خلفها المسلمون. وتتناسل الأفكار والاجتهادات والاختلافات، وتنتقل من الفروع إلى الأصول، حتى تطرف بعض الفرق والطوائف، وراح غُلاة السُنّة والشيعة يكفرون بعضهم بعضاً.
وقد حفر ذلك عميقاً في ضمير الأمة ووجدانها؛ وتاه المسلمون وتفرقوا؛ وسالت دماؤهم فيما بينهم قرونا طويلة؛ واهتز إيمان الكثيرين من النخبة المتنورة، حتى صار البعض منها ينأى بنفسه عن عناء البحث عن الحقيقة، والخوض في جذور الخلاف السياسي والمذهبي في التاريخ الإسلامي، حفاظاً على إيمان لا يريد له أن يتزعزع.
وبعد 1400 سنة من خلاف سياسي لبس قسراً عباءة دينية، وبات مكشوفاً لكل ذي عقل، تصر أطياف تيار الإسلام السياسي على الذهاب بعيداً في تسييس الدين. لا تثنيهم عن ذلك دروس أربعة عشر قرناً من محاولات فاشلة لتديين السياسة. ويلتقي معهم في الدعوة إلى الفتنة بين المسلمين مشايخ السلاطين، ومشايخ آيات الله، ليحولوا ديار الشام اليوم إلى ساحات جرائم بحق المسلمين؛ مثلما فعلوا في ديار العراق.
إنها الفتنة، والفتنة أشد من القتل. وهي ذات الفتنة السياسية التي قامت على قاعدة دينية، وما تزال سيوف أصحابها مشرعة تلطخ وجه الإسلام ووجوه المسلمين جميعاً. لم تُشف جهلهم ومرضهم ورؤوسهم الحامية شلالات الدم التي سالت على امتداد التاريخ الإسلامي منذ الفتنة الكبرى، وتوريث الحكم، والتقاتل في سبيله بين الأبناء والإخوة من بني أمية وبني العباس، وقيام الدويلات المذهبية في بلاد الشام والعراق ومصر، والحرب الضروس بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية.
ما من شك في أن نظام الولي الفقيه هو من يجدد الفتنة التي لم نكن نسمع بها قبل مجيئه. وقد صدّرها إلى العراق بعد أن جعله محافظة إيرانية؛ ومن بعده إلى اليمن وحدود السعودية والبحرين. وهو يقاتل منذ سنتين على الأرض السورية. لكن ما من شك أيضاً في أن من يسمون أنفسهم علماء السنة من السلفيين قد قابلوا الولي الفقيه بما أراد؛ فذهبوا إلى القاهرة ليعلنوا الجهاد في سورية، بعد أن أمسكوا عن إعلانه ضد إسرائيل وما يزالون.

[email protected]