شرط بقاء العربي.. لبنان مثالا..

صباح الجمعة، انتحر مواطن لبناني في الشارع بإطلاق النار على رأسه. وكانت الساعة الواحدة والنصف ظهرا عندما قالت صحفية في الموقع أن جثمان المواطن ما يزال في مكانه منذ أربع ساعات لأن فوضى القرار والبيروقراطيات تحول دون تحصيل موافقة من مستشفى على إيداعه في ثلاجاته.اضافة اعلان
ترك علي محمد الهق، (61 عاما) ورقة سجل عدلي، مختومة بعبارة «لا حُكم عليه»، ومعها ورقة كتب عليها بالأحمر العريض «أنا مش كافر»، تاركا للأحياء إكمال مقطع الأغنية المعروفة «بس الجوع كافر».وانتحر في اليوم نفسه سائق لبناني بشنق نفسه في منزله، وكان يشكو، كما قال شهود، من ضائقة مالية. وبالأمس اشتُبه في انتحار ثمانيني أيضا بإطلاق النار على رأسه.
اللبنانيون يعانون بشدة من حكم فاسد تتيحه الطائفية والمحاصصة وتعارُض الولاءات. وكان هذا حال لبنان منذ أمد طويل. لكن مفصلا حاسما في تاريخه الحديث كان أنه أصبح يضمُّ –بالمقدمات المعروفة المركّبة- حركة تشكل خطرا على الكيان الاحتلالي الصهيوني في فلسطين، وتجاهر بعدائها الأيديولوجي له ولراعيته، الولايات المتحدة.
الآن، تلاقى هذا الوضع بالتحديد مع الأزمة المزمنة الناجمة عن تركيبة الحكم الطائفية وما تتيحه من فساد، ليكوِّنا عاصفة كاملة. مع التحرُّك الكبير الذي لا تخطئه العين لإخماد أي تعارض مع الكيان الصهيوني وترتيب علاقات المنطقة لخدمته، يجب أن تسوى مسألة لبنان أيضا. والوسيلة الأسهل من الحرب هي تعميق أزمة البلد السياسية والاقتصادية بحيث يتألم الناس بشدة حتى أصغر طفل. ولن يتدخل أحد للمساعدة. وليعانِ الناس من أسعار السلع المحلقة مع هبوط سعر الليرة المستمر مقابل الدولار، ومن البطالة المتزايدة، وتدمير السياحة، وبؤس الخدمات. وليخرج الناس للاحتجاج وتتهيأ الفرصة لتصاعد التوترات الأهلية مع عجز الحكومة عن فعل أي شيء وانسداد الأفق تماما -إلا إذا؛ إلا إذا تدخل الخارجيون للإنقاذ، من الدول البعيدة وتابعاتها القريبة، والمؤسسات المالية الدولية التي تملكها. وسوف يأتون للغوث بشرط: إجراء «إصلاحات». و«الإصلاحات» بالمعنى الرائج في خطاب الغرب، هي محاربة الفساد، واعتناق الديمقراطية وتعزيز الحريات. لكن الواقع يقول إن هؤلاء لا يُعنَونَ بأي من ذلك حقا؛ فليذهب المواطنون العرب وأحوالهم إلى الجحيم وأبعد. بل إنهم يفضلون ويساعدون الأنظمة الفاسدة، واللا ديمقراطية
ولا طاهرة الأذيال. وربما تكون هذه بالتحديد هي متطلبات نيل الرضا وبعض السلام المستكين.
في الحقيقة، دع عنك التعريفات والتأويلات والتشتيت. لا تلوِّث رأسك بأوهام شيعي أو سني؛ ديني أو لا ديني؛ عربي أو عجمي. وانسَ أيضا مسألة «التدخل في شؤون العرب الآخرين»؛ ثمة عرب يُخربون بيت عرب آخرين كل يوم، بمفاقمة الأزمات، وشراء الولاءات، وتجنيد الوكلاء والتدمير المباشر بالحرب –وكله مسموح إذا خدم أجندة الأميركان والكيان-. الشيء الذي يحدّد وضعك حقا هو: هل تشكل خطرا -أو طيف خطر مستقبلي بعيد- على الكيان الاحتلالي؟ هل تسعى إلى –أو تتحدث همسا عن- تحرُّر من الهيمنة، واستقلال للقرار والاختيار؟ هل تريد أن يكون لك قول آخر –أي قول- غير ما يريد أن يسمعه الأميركان والصهاينة؟ إذا كنت كذلك فأنت خارج على عُرف العرب، والقانون الدولي، وإرهابي تهدد السلم العالمي. ولذلك، ينبغي تأديبك بالتجويع، والضغط، والحصار، والتأزيم، وتحريض تناقضاتك المحلية، ثم تدميرك بالحرب المباشرة. انظر العراق، وليبيا، واليمن، وسورية –وفلسطين قبلها وبعدها.
«الإصلاح» المطلوب في الحالة العربية –واللبنانية- هو أي خلطة داخلية (قمع، نهب، حرب أهلية) على أن تكون نتيجتها إعلان التسليم لأميركا، والذي يعبّر عنه حصريا بالمصادقة على وجود الكيان الصهيوني ومساعدة مخططاته ومخططات الذين يساعدون مخططاته. وفي لبنان، يعني «الإصلاح» بلا لفّ ولا دوران، أن يُطهر البلد نفسه من خطايا أي نزعات، أو أدوات، لتحقيق توازن قوة –بأي مقدار- مع الكيان الصهيوني، أيا يكن صاحبها.
وإلى أن يأتي لبنان متنسكا أبيض الأثواب والرايات، سيظل منذورا للعزل والتأزيم والتجويع، وسوف يُستهدف حتى آخر مواطن. وسوف يتألم اللبنانيون حتى ينزلوا إلى الشارع ليهتفوا بما تبقى لهم من صوت: لا نريد مقاومة.. لا نريد سلاحا. انظروا أيدينا العزلاء مرفوعة فوق رؤوسنا. شاهدوا بطانات جيوبنا الفارغة مُسدلة بيضاء خاوية الجانبين، ودعونا نعيش.
ربما يكون هذا أهونُ انتحارين، وشرط البقاء الفيزيائي للمواطن العربي.