شغل عقلك


لم أعد في الفترة الاخيرة أستمتع بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، فغالبا ما تصيبني حالة مقرفة مما اقرأه عبر تلك المواقع من تعليقات و"بوستات"، وصور وفيديوهات، وينتابني شعور بالخوف والقلق جراء حالة التجهيل التي تمارس عبر تلك المواقع، ويرتفع منسوب القلق عندما أعرف أن صاحب هذا التعليق أو ذاك أستاذ جامعي أو معلم أو طبيب أو مثقف، أو أعلامي، فيقفز إلى الذهن فورا سؤال افتراضي عن المستقبل الذي ينتظر أبناءنا.اضافة اعلان
فحين ترى إعلاميا يريد خطف عقولنا، فيخبرنا أن الرئيس الفلاني في العناية المركزة، وترى طبيبا يحدثنا عن السحر والمس وغيرها، وترى مثقفا يستل سيف الدفاع عن الإرهاب ويبرره في مكان ويرفضه في مكان آخر، وتقرأ لأستاذ جامعي يضخ أفكارا إقليمية وطائفية وجهوية تشعرك وأنت تقرأها بالغثيان من مرارة التجهيل المراد إيصاله للعقول، أو تقرأ لوزير سابق مشاركة (فيسبوكية) تقطر جهوية وقطرية، ومذهبية، فإن كل ذاك يجعلك تشعر بارتفاع الغثيان والشعور بالقلق على مستقبلنا ومستقبل بلادنا.
الأصعب أن أولئك يرفضون الحوار معهم، ويصادرون حقك في مخالفتهم، وإنْ حدث وجادلك بعضهم فإنّ وسيلته الأولى للخطاب هي القذف والشتم، عند ذاك يخطر في البال ما قاله أحد القدماء: "الحكيم يناقش في الرأي، والجاهل يجادل في الحقائق"، وتستذكر بالأثر كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تخاطب الجاهل فيغلبك بجهله".
الحقيقة أن البعض -وهم كثر- يمارسون شذوذا فكريا، عبر تلك المواقع، فيذهبون باتجاه تعميم التجهيل، وتمتينه، يهاجمون كل من يختلف معهم فكريا أو إنسانيا أو اجتماعيا أو ثقافيا، والاتهام الأبسط لديهم هو التكفير حينا، والشتم أحيانا أخرى، ولعل السمة الأبرز لعدد لا بأس به من رواد تلك المواقع هو نقل الإشاعات والأخبار الكاذبة، وتعمد تغييب العقل، وتعزيز فكر التسليم بالأمر أكثر من تعزيز فكر التبصر والتفكير.
الأنكى أن البعض ممن يمارسون التجهيل يجدون لهم متابعين ومؤيدين فيمارسون على متابعيهم التضليل، والتنظير الركيك، وهم يعرفون أنهم سيجدون من سينقل ركاكة تفكيرهم لآخرين، فينسجون قصصا وهمية ويخترعون أحداثا ليست حقيقية، والأغرب ان بعض الصحف الصفراء تأخذ من أولئك وتنقل عنهم.
حقيقتنا المرة أن مواقع التواصل الاجتماعي باتت تعج بتوجهات مختلفة وأفكار مشوشة، وجهلة يسيطرون عليها، حتى باتت تلك المواقع منصات لأولئك الجهلة للسيطرة على بسطاء الناس والذهاب بهم لأماكن وعرة، وتعزيز الأفكار المذهبية النتنة، التي لا تمت للحقيقة والعقل بصلة، وإسباغ قيم متهالكة تبعدنا في بدايتها ونهايتها عن تشغيل العقل باتجاه المعرفة والاستقصاء والتيقن والتمحيص والتفكير، وتذهب بنا باتجاه التلقين والتكلس الفكري والعقائدي والمذهبي والإنساني والحضاري.
المؤسف أن الامر الذي بات يدعو للقلق هو أن البعض من رواد مواقع التواصل الاجتماعي بات يستمد وجهة نظره وتفكيره مما يقرأه من خلال أولئك الخاطفين للعقول عبر الفضاء الافتراضي، فيرددون ما يسمعونه منهم أو يقرأونه عنهم، وهذا يعني اختطاف الناس عقليا وفكريا وذهنيا، وجعلهم يرددون ما يراد لهم ترديده من شائعات وأفكار جاهلة لا تستقيم لبناء مجتمع حديث متطور وعصري، ولا يمكن أن ترفعنا باتجاه دولتنا الحضارية التي نريد.
الأصل في مواقع التواصل هي تبادل وجهات النظر بين الناس في أمور مختلفة، والاستماع للرأي والرأي الآخر، واحترام الآراء وإنْ تباينت المواقف معها، ولهذا لم تكن وجهات النظر التي عبّرت عنها صفحات المقاطعة مثلا سوى تكريس لمثل تلك الرؤى الإيجابية القليلة التي استطاعت أن تشعرنا بوجود ضوء قد يظهر في عتمة الانغلاق.
الأمل أنْ نرتقي في تعاملنا مع التواصل الاجتماعي، فتصبح تلك منصات حوار وتفكير وعلم وثقافة، وأنْ نخرج من فضائنا الافتراضي، أولئك الذين يريدون مصادرة عقولنا ومنعنا من التفكير وتشغيل العقل.