ترجمات

شمال العراق: السلام، التناغم، والنفط

تقرير خاص
(الإيكونومست) 20/4/2013
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
يقول علماء التوراة إن جنة عدن كانت في شمالي العراق، ربما عند المكان الذي يلتقي فيه نهرا دجلة والفرات. لكن العراقيين عندما يفكرون في الفردوس الدنيوي، فإنهم يميلون للنظر إلى الشمال باتجاه كردستان. ومن السهل تخمين السبب. ذلك أن المتنزهين تدفقوا زرافات ووحدانا لإقليم الشمال الذي يتمتع بحكم ذاتي، حيث مروج الورد المتفتحة وحيث الأودية المنحوتة بجريان الجداول المنسابة من قمم الجبال المكسوة بالثلوج، خلال عيد النيروز التي احتفل بها الشهر الماضي.
وليست الطبيعة هي نقطة الجذب الوحيدة في كردستان العراقية. فالنظام النسبي والأمن والثروة التي يتمتع فيها ما يقرب من 5 ملايين نسمة، هم سكان محافظات العراق الكردية الثلاث، تظل مصدر حسد للملايين الـ 25 الباقية من السكان الذين يعيشون في جل العراق المضطرب، وكذلك لآخرين أيضاً.
منذ العام، 2011 استقبلت المنطقة 130.000 لاجئ سوري، كلهم تقريباً من الإثنية الكردية، كإخوة. وتقول الأمم المتحدة أن ذلك الرقم يمكن أن يصل إلى 350.000 بحلول نهاية هذا العام. ومن الشرق، يأتي الأكراد الإيرانيون الذين يتطلعون للعمل في مواقع البناء التي تنشأ في عموم المنطقة التي تماثل مساحتها مساحة سويسرا. ومن الشمال تأتي حمولات طائرات من رجال الأعمال الأتراك الذين يسعون للاستفادة من الأرض الغنية بالنفط، لدرجة أن عبقه المغثي يفوح في كل مكان. ويعد العراق راهناً ثاني سوق لصادرات تركيا بعد ألمانيا، حيث تتوجه نسبة 75 % من تلك التجارة إلى الجزء الكردي: 4000 شاحنة تجتاز الحدود يومياً.
وليس الحال هنا كذلك دائماً. فبمسح المجاز المغبر الضيق المبقع بالخيام في ضوميز، المخيم الذي يؤوي أكثر من 50.000 مشرد سوري خارج مدينة دهوك المزدهرة، يهز كردي عراقي كتفيه قائلاً: “قبل عشرين عاماً كان هذا هو حالنا”. مشيراً بذلك إلى ما بعد معركة الأنفال، أو الحملة التي شنّها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في أواخر الثمانينيات لسحق الانتفاضة الكردية. وقد خلفت تلك الحملة 100.000 قتيل، ودمرت 4.000 قرية، وخلقت مليون لاجئ.
وبعد ذلك، سمح فرض ملاذ تابع للأمم المتحدة للمقاتلين الأكراد، الباشميرغا، باستعادة السيطرة ثانية في العام 1991. لكن الإقليم الذي لا يطل على بحر ظل مطوقاً من جانب قوى متشككة. وقد خشيت إيران وسورية وتركيا كلها من أن تصيب القومية الكردية أقلياتها بالعدوى. وكانت هناك مشكلة في الداخل أيضاً، حيث ضخمت السياسة من وتيرة الانقسام في الخطاب بين كردستان الشرق والغرب، وقدحت شرارة حرب أخوية في الفترة بين العام 1994 والعام 1997.
وقد طال أمد التوترات منذ ذلك الوقت، سوية مع تصاعد الشكاوى من الجشع والمحاباة للأقارب في الحزبين الحاكمين اللذين يهيمنان على الحكومة الإقليمية الكردية. كما يتوق الأكراد العراقيون إلى رؤية استقلالهم وهو يصبح أمراً واقعاً واصطبغ بالصبغة الرسمية. وفي الأعين الكردية، يعني ذلك مواصلة الاحتفاظ بالسيطرة على الأرض التي تقع من الناحية الفنية خارج المحافظات الثلاث التي يعترف بها في عموم العراق بأنها كردية، وخاصة مدينة كركوك متعددة الأعراق التي تحمل الصبغة الكردية من الناحية التاريخية.
 لكن معظم الأكراد يقبلون بحقيقة أن الصبر قد آتى ثماره حتى الآن. فقد حافظ حماة العراق الأميركيون على بقاء القوات الأجنبية بعيدة. وفي الأثناء، تتلقى الحكومة الإقليمية الكردية ما نسبته 17 % من مجموع الموازنة الفدرالية العراقية، وهي النسبة التي تعد الآن نسبة ضخمة، بفضل صادرات العراق النفطية المتنامية (بالرغم من أن حصة الأكراد تأتي بعد خصم نسبته 30 % لصالح النفقات العراقية “السيادية”.
منذ الغزو الذي تعرض له العراق بقيادة أميركية في العام 2003، أعاد أكراد العراق بناء القرى، ورفعوا حصة الفرد من إجمالي الناتج القومي عشرة أضعاف، وحافظوا على القانون والنظام وحولوا الباشميرغا إلى جيش ضخم. ومع أن انقطاعات الكهرباء تعصف ببغداد، فإن فائض صادرات الحكومة الإقليمية الكردية من الطاقة يتدفق إلى البلدات العراقية المجاورة. ومع أنهم منقسمون في الوطن، فقد توحد الأكراد ليتمكنوا من التعامل بنجاح مع الحكومة الفدرالية، مؤمنين لأنفسهم شروطاً جيدة في دستور العام 2005، ومنصباً رفيعاً في العاصمة.
حدود نفطية.. حدود زلقة
لم يتحدث المسؤولون الأكراد عن الاستقلال حتى الآن. لكن هناك العديد من العوامل التي تشير إلى اعتراف. وأحد هذه العوامل هو الحالة البائسة الميئوس منها لباقي العراق. ولأنهم متضررين من تفجيرات القاعدة، وقلقين من احتمال سقوط الحكومة السورية الموالية للشيعة، فإن عدداً متنامياً من العراقيين الشيعة يهمسون بأنه يجب عليهم السماح للأكراد بأن يذهبوا، وبأن من الأفضل السيطرة على ما تبقى.
وفي الأثناء، أصبح نوري المالكي، رئيس وزراء العراق الذي يصبح أكثر استبداداً باطراد أكثر ميلا للمواجهة مع الأكراد. وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أرسل قوات إلى كركوك، وهو ما دفع الحكومة الإقليمية الكردية إلى حشد قوات الباشمارغا. وفي آذار (مارس) الماضي، وعلى إثر اعتراضات كردية، مرر البرلمان الفيدرالي موازنة بقيمة 118 بليون دولار، والتي خصص منها مبلغ 650 مليون دولار فقط لدفع ما تدعى حكومة إقليم كردستان أنه دين بقيمة 3.30 بليون دولار تدين بها لشركات النفط الأجنبية. وعلى الأثر، قام الأكراد المغضبون بسحب وزرائهم الفدراليين وأعضاء البرلمان. وهم لا يملكون راهنا أي تمثيل رسمي في بغداد. ومن المعروف أن جلال طالباني، رئيس العراق الكردي الذي غالبا ما كان يحل المشاكل بسحره السهل الممتنع، ما يزال على فراش المرض في ألمانيا منذ كانون الاول (ديسمبر).
مهما كانت الرغبات الراهنة للساسة، فقد تعيد الاكتشافات النفطية ترسيم حدود العراق. ويقول الأكراد إن دستور العراق يحرر المناطق المتمتعة بالحكم الذاتي لتقوم بتطوير حقول جديدة، وأنهم ربطوا شركات نفطية كبيرة بصفقات لتقاسم الانتاج، وهو ما يجعلهم يحجزون احتياطات النفط كأصول. وتقول بغداد إن هذه الصفقات غير قانونية، لأن النفط هو ملك الشعب، ويجب أن تذهب كل العوائد للدولة المركزية. كما أنها تشعر بالقلق من أن حوالي 50 صفقة كانت قد وقعتها الحكومة الإقليمية الكردية، تتعلق بمنطقة ما تزال متنازعاً عليها.
طالما كان معظم الإنتاج النفطي في العراق يأتي من الجنوب، وطالما ظلت تسيطر على خطوط أنابيب التصدير، فإن بغداد تتمتع باليد العليا. لكن كردستان، كما يتبين، تحتوي على الكثير من النفط. ويصل حجم الاحتياطيات المثبتة راهنا إلى حوالي 45 بليون برميل، أي ثلث أو أقل قليلاً من إجمالي ما يمتلكه العراق، لكنها تظل مع ذلك قريبة من ضعف ما تمتلكه أميركا. وفي الأثناء، ترتفع قدرة الإنتاج الكردي بوتيرة سريعة، ويتوقع أن تصل إلى مليون برميل يوميا مع حلول العام 2015، وربما مليوني برميل يوميا مع حلول العام، 2020 كما يقول مسؤول تنفيذي في شركة Gen.enl، وهي شركة بريطانية تركية تعد أكبر مشغل في كردستان.
مع أن المناكفات مع بغداد أفضت إلى إقفال متكرر لخط الأنابيب الرئيسي الموصل إلى تركيا، فإن كميات متنامية تذهب عبر صهاريج الناقلات، ما يعزز التحالف الكردي التركي المتبرعم الذي كان من شأنه أن يسبب الصدمة لكلا الشعبين قبل أعوام قليلة وحسب. وتتوقع حكومة إقليم كردستان استكمال خط أنابيب يصل إلى تركيا مع حلول أيلول (سبتمبر).
وفي الأثناء، تحرص تركيا على الابتعاد عن التعويل على إيران وروسيا. ولعل مما يساعد أيضا أن العديد من شركات الطاقة التركية تبقى قريبة سياسيا من حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي ذهب مؤخراً، وليس من قبيل الصدفة، باتجاه تأمين السلام مع أكراد تركيا. ويلمح المسؤولون في العاصمة التركية، أنقرة، إلى وجود صفقة قيد البحث راهناً مع كردستان، والتي ستغطي جهود الاستكشاف والإنتاج والنقل لكل من النفط والغاز الطبيعي.
وتنطوي هذه الاحتمالية على إنذار للحكومة في بغداد، ليس لأن السيد المالكي يميل إلى رؤية تركيا من خلال عدسات طائفية كوحش سني يتدخل في الأمور فحسب. وإذا أمنت كردستان ثروة نفطية مستقلة، فثمة أجزاء أخرى في العراق ربما تحذو حذوها. ويتقاسم هذه المخاوف، على نحو غريب بما يكفي، أكبر حليفين للعراق، إيران والولايات المتحدة. وقد تحرك الأميركيون بشكل متكرر للجم الطموحات الكردية، بينما تقوم الولايات المتحدة بتشجيع بغداد على احتوائهم. لكن الجائزة للأكراد والأتراك تشرع في أن تبدو كبيرة جدا لمستقبل العراق بحيث يمكن حل المسألة بالمزيد من التفاهمات الضبابية.

*نشر هذا التقرير تحت عنوان:  Northern Iraq: Peace, harmony and oil

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock