شهودي الذين بالملايين

 

قبل أيّام قرأنا كما جاء في الصُّحف عن تشكيل ديوان للمظالم في الأردن. لا أكتمكم أنّني فرحتُ للفكرة، فوجود مثل هذه المؤسّسات في بلادنا يمكن أن يعيد الحقوق لشريحة واسعة من المواطنين المغلوبين على أمرهم. ما هذا؟ ديوان للمظالم؟ تساءلتُ بيني وبين نفسي، ثمّ أطبقت جفوني على أمواج كاسحة من أحلام اليقظة، هاجمتني على حين غِرّة، وقذفَتْ بي كالرّيشة في لُجّتها الرّهيبة.

اضافة اعلان

أريد أن أرفع عدداً كبيراً جدّاً من القضايا، هتفتُ، على أفراد ومؤسّسات وجمعيّات ونوادٍ واتّحادات وانفصالات! على مصانع وشركات عملاقة وشركات صغيرة، على مظاهر عامّة وخاصّة، وسلوكات غير حضاريّة لا تروق لي، على أخطاء وحماقات فادحة وحماقات صغيرة يجري ارتكابها في عزّ الظّهيرة ولا تجد هناك من يعترض أو يحتجّ عليها، على قانون الصّوت الواحد في الانتخابات، وقانون الأصوات المتعدّدة! فالمشكلة لا تتّصل بعدد الأصوات، وهي أعقد من ذلك بكثير، على الغلاء الفادح في كلّ شيء والأسعار المجنونة التي خرجت عن نطاق السّيطرة وباتت تدكّ رؤوسنا كالمطارق الحديدية صباح مساء، على المستشفيات وعيادات الأطبّاء التي لا تعالج أحداً إلا إذا دفع وباع قميصه، على الجامعات والمدارس الخاصّة التي تبطش بالطّلبة وتطردهم من قاعاتها إذا لم يدفعوا الأقساط.

أريد أن أرفع قضيّة بشأن منع دواوين الشّعر من التّوزيع، وأخرى بشأن كاميرات الشّوارع التي أصبحت تسمّم عيشة السّائقين. لا بدّ من قضيّة أخرى أرفعها بشأن فواتير الماء والكهرباء، وبشأن الغذاء المسرطَن، والهواء الفاسد الذي نتنفّسه، ثمّ بشأن هذا الصّمت المطبق الذي يتربّع على صدر المدينة ويدفق من النوافذ والشّرفات مثل شلالات من دمع أسود.

قضيّة أخرى أريد أن أرفعها على البنوك التي تتحكّم برقاب العباد، دلّوني على واحد من الناس لم يقع ألعوبةً بين براثنها! في إحدى المرّات دخلت محلّ أدوات منزليّة، واشتريت بعض الأغراض، وبسبب ارتفاع سعرها أخذت أتذمّر، فما كان من صاحب المحلّ إلا أن قال بنبرة يشوبها الحزن يا عزيزي إنّ هذا المحل برمّته مرهون للبنك. قلتُ له معقول يا رجل؟ فقادني إلى الباب وأشار بيده قائلاً: هذه المحلات التي تراها أمامك من أوّل الشّارع إلى آخره، انظر لقد أصبحت جميعها مِلْكاً للبنوك!.

في جعبتي أيضاً عدد من القضايا التي أنوي أن أرفعها بحقّ مجموعة من الأوغاد الذين كان لهم أثر مدمّر ليس على مصير حياتي فقط، ولكن على مصير الكوكب. على رأس هؤلاء يقف المدعو بلفور صاحب الوعد الشّهير المعروف باسمه. لقد تسبب لي هذا الشّرّير بشريط هائل من الخسارات والكوابيس والآلام، ربّما أورّثها لأبنائي وأحفادي في العقود المقبلة. فبسببه تدحرجتُ من سفح هاوية إلى سفح أخرى حتى صرت ربيب مجازر، وبسببه تحوّلت قريتي الوادعة في نواحي اللد إلى مزرعة بقر! أريد هنا أن يتمّ إحضار المذكور بلفور من قبره ليحاكَم أمام ناظريّ. لتكن جلسة المحكمة علنية، ولتبثّ وقائعها على الفضائيّات.

في غمرة هذه القضايا المتدافعة نسيتك أيّها الحبّ. أريد هنا أن أرفع قضيّة من أجلك ضدّ أولئك الرّجال الممسوسين الذين أصبحوا يتحرّكون كالمسنّنات في آلة اسمها المؤسّسة الزّوجيّة، وضدّ أولئك النّساء المهرولات بين المطابخ والعمل فيما قلوبهنّ الصّغيرة تتساقط وراءهنّ في الطّريق مثل حبّات التّين الجافّة.

قضايا كثيرة جدّاً لديّ أريد أن أطرحها على ديوان المظالم، قضايا كثيرة أحتاج إلى ألف كاتب لأمليها عليهم، وإلى رتل من الشّاحنات العملاقة لتحملها. أحتاج أيضاً إلى شهودي الخاصّين، ولكن هل يمكن أن تتّسع قاعة المحكمة لهم؟ إنّهم ورائي بالملايين!

[email protected]