شوارع عمّان بلا مصابيح!

في السنوات الأخيرة من الستينيات، كان طيران العدو الصهيوني يغير أحياناً على مدينة عمّان. ومن باب الحيطة واستجابة لتعليمات الدفاع المدني، كان النّاس يصبغون زجاج شبابيكهم حتّى لا ينفذ منها الضوء، فيدلّ العدوّ على جسد المدينة. ومن باب السهولة واستخدام ما تيسّر، استعمل الناس لتعتيم شبابيكهم طلاءً مبتكراً كُحليّ اللون: "نيلة الغسيل". وكانوا يستخدمون راحات الأيدي في الطلاء بعد تذويب النيلة في الماء، فيرتسم الأزرق على الزجاج في النهارات دوائرَ ودوّامات فوضوية متداخلة، مثل لوحة سوريالية غامضة المعنى. ولا بأس بعد ذلك من وضع طبعة يد زرقاء، بالأصابع الخمس مفرودة، على حائط المنزل الخارجي المدهون بالشيد الأبيض، درءاً للعين والحسد. وفي الليل، كان الضوء بالكاد ينزّ من نوافذ البيوت المنكفئة على ساكنيها. وكانت الشوارع مطفأة المصابيح تُغرق عابريها هي الأخرى في موج من العتمة الداجية، والتوقُّع.اضافة اعلان
في تلك السّنوات، كانت بين النّاس والعتمة إلفة غير مصطنعة. كبار السنّ قدموا إلى المدينة من القرى، معتادين على ظلمة المسالك وضوء سراج الزيت الكابي في البيوت. والصّغار الذين ولدوا في المدينة من أمثالنا، اعتادوا أيضاً انقطاعات الكهرباء الكثيرة، والسهر على سراج الكاز ذي الفتيلة القنَّبية، أو "لوكس الشنبر" الأفضل إنارة في أحسن الأحوال. وكان موضوع تعتيم زجاج نوافذ البيوت ومصابيح السيّارات حدَثاً يتحسّسه الأطفال بمجسّات الفضول ومتحسّسات التغيير، ولو أنّ قلقَ الكبار كان يتسلّل بطريقة غامضة إلى الهواء، فيتنفسه الصبية ويصابون بعدواه، بقدر أقل.
مِن تلك الأيّام، أتذكر مرّة صحبنا فيها أبي إلى أقارب لنا في مدينة "سحاب" خوفاً علينا من الغارات. وفي الليلة الأولى لوصولنا إلى هُناك، انطلق في الليل "زامور الخطر"، صفّارة الإنذار الزاعقة المحذرة من غارة جويّة وشيكة. وأسرع بنا الكبار في العتمة المطبقة إلى ملجأ قريب معتم هو الآخر، محفور في الأرض. وقد رأيت وأنا أنظر من فوق كتف أبي، أضواء صغيرة تشتعل وتنطفئ في السماء الليلية، وهُيئ لي أنها كانت أضواء الطائرات المُغيرة. ولا أعرف الآن، بعد أن أسقطت السنوات التفاصيل، إذا كانت مجرّد القناديل السماوية التي كانت دائماً تضيء هناك، ولم ألاحظها لكثرة الإلفة. وفي الملجأ، كان عود ثقاب يشتعل سريعاً وينطفئ للاستدلال على تضاريس المكان وترتيب الأجساد في المساحة المحتشدة بالعتمة والخوف. والآن، بعد كلّ هذه السّنين، لا أستطيع أنْ أصف بعدُ نوع الشعور الذي صنعته في نفسي تلك الليلة، والذي يعودني أحياناً بنفس تجريده الذي لَم تستطع الخبرة والسنين أن تترجمه إلى كلمات لها معنى.
شيء مشابه، ومختلف، زارني قبل أيام وأنا أعبر شارع الجامعة، باتجاه نفق الصحافة. وقد أطبقت العتمة الليلية بفعل الغيم والمطر اللذين اختصرا العابرين، وبسبب ذهاب مصابيح الشارع الوسطية التي اغتالها مشروع "الباص السريع". ولوهلة، بدت المنطقة غير مألوفة في الضوء القليل، وكأنني أمرّ بمدينة أخرى. وبالكاد كنتُ أتلمس الطريق أمام مصابيح السيارة الكليلة، وكأنها مطلية بالكحليّ هي الأخرى، مُحاذراً الاصطدام برصيف جزيرة الباص السريع الذي يقتحم الطريق في بعض الأماكن على حين غرة، مثل كامِن لَكَ يريد اصطيادك.
وفي الحيّ أيضاً، ما تزال مصابيح الشوارع مطفأة منذ أيّام طويلة، على غير عادة. ويزيد الظلمة إسدال الساكنين ستائر نوافذهم بإحكام، بُغية اعتقال الدفء العزيز في هذه الليالي الباردة. وباختفاء قامات المباني خلف حُجب العتمة، يروق للمخيّلة أن تصطنع ما تشاء بالمشهد، فتشكّل شيئاً قديماً، بدائياً وقرويّ النكهة. وبشكل ما، لا تسود دعة القرى وإلفتها، وإنما شعور أقرب إلى الرّيبة وعدم الاعتياد، شبيه بليلة الغارة القديمة في المدينة الأخرى.
أحاولُ أنْ أفهمَ أزمة الغاز، كما ينبغي لمواطن واقعيّ. ربّما يكونُ ذلك عرَضاً جانبياً للربيع العربيّ، يجب أن نتحمّله. وكذلك الترشيد في ضرورياتنا بسبب أسعار النفط المرتفعة، واكتظاظ عمّان بكثير من قاطنيها في الستينيّات. لكنّ شوارع عمان التي يشحّ فيها الضوء، وغموض المشهد كله، يلحّان في استدعاء ذلك الشعور الطفوليّ المختلط المتبقّي من الغارات في الستينيات؛ ذلك الشيء المصبوغ بالكُحليّ، والتحسَُس الفضولي المتسائل، والكثير من التوقُّع الحذر!

[email protected]