شيء من العمر

من تخلى عن الآخر أولا؛ نحن أم أغنياتنا القديمة؟ نلتقطها اليوم حين نسمعها مصادفة عبر الإذاعة، مثل ساق دمية مخلوعة ضاعت بعيدا عن انتباهنا، وانتقصت من ذكرياتنا قطعة، فشوهت صورة الماضي الذي لم يمل من البحث عن نقيصته في كل الألعاب التي مرت على الرفوف.اضافة اعلان
هناك، في المكان الذي يلقي القبض فيه على لحظات ضعفنا، عندما تصدح أغاني الثمانينيات والتسعينيات، نضطر إلى الرضوخ قسرا لفكرة أن عشرين عاما مضت من أعمارنا، لم تكن أمس ولا أول من أمس كما كنا نعتقد!
نتساءل ويحق لنا التساؤل، ماذا امتطت سنواتنا الطويلة لتسرق الزمن في هنيهة، وتجري بنا إلى شيء من العمر قريب من الخريف، نخاف أن نسميه خريفا بشكل صريح، ممنين أنفسنا بصور أجداد لا نشبههم وهم في مثل أعمارنا، متحلقين حول أسطورة "اللايف ستايل" المترفعة على حكايات الكد الذي يهد الحيل قبل أوانه.
فعلا، عشرون أو ثلاثون عاما حتى، طارت في أقل من سنوات صغيرة لم نلحق أن نوثقها بالصور كما يجب؛ ألبوماتنا ذات اللواصق الشفافة وفية أكثر من أصحابها، استحالة أن تنتزع ذكرى واحدة من قلبها بسهولة، فيما لقطات ثورة الاتصالات لا طعم للذكرى لها ولا لون للزمن، وما بين الصورتين.. شيء لا يذكر!
من أخلف بوعده أولا نحن أم الأغاني؟ اليوم وفيما نلملم بقايا روائح الماضي من ألحان وزعها حميد الشاعري، ننظر حولنا في الشارع قلقين من أحد ربما يرانا  نحن ضعفاء جدا، في حضرة "الأورغ" الالكتروني، أو كي لا يخرب علينا لحظة الإمساك بتلابيب ابتساماتنا الخجولة من شريط "النيجاتيف" الطويل. نستدرك مظهرنا الصارم قبل أن تتقاطع حركاتنا مع صائد آخر للزمن الجميل، على الإشارة نفسها، ونكتشف أننا من العلبة نفسها باهتة الألوان!
أولادنا يروننا كبارا جدا على المستقبل، الذي حصلوا عليه كبطاقة ترضية عن إلغاء فقرة الحاضر! يستغربون من استغرابنا لاختصار مراحل النمو من الماضي إلى المستقبل مباشرة، حيث الحاضر مكان لا وقت للمرور فيه. يروننا بعيدين جدا في تلك البقعة غير المرئية نستحث خطانا ونجرجرها خلفهم، وهم الذين يتركون لنا غبار سباقهم إلى الأمام نتشردق فيه.
نعم، لم يعد الشباك هو النافذة المتاحة لبث الغرام، ولا القمر لكل الناس والآخر يظنه العاشق له، وحتى السنة التي فاتت من عمرنا لم تعد لها قيمة الوقت نفسها، المحسوب بعداد طويل الروح!
نحن أيضا بصراحة قصرنا مع أغنياتنا الطيبة كثيرا، في طريق لهاثنا نحو الحداثة الموسيقية والثقافية، اعتقدنا خلال حفلة نط الحبل تلك بأن شكل الأغاني يجب أن ينتفخ ويشد ويرتفع تبعا لعمليات تجميل وجوه لا تهرم أبدا. وفوق أننا ننسى كيف انتزعت عشرون سنة من قصص حياتنا، ونعلق أعيننا على أولادنا كملاذ يفسر غيابنا عنها، ما نزال نشتغل ونربي ونوصل للمدارس وندرس ونتسوق ونبحث عن أماكن اصطفاف مسموحة ونلعن الزحمة الممتدة، كل هذا بسرعة نفاثة لا تدع لنا فسحة للتأمل، ولا فرصة لنقد الذات أو حتى الندم!
نحن جيل يلتقط أنفاسه بصعوبة بين دفتي الباب الرداد؛ دفة تفتح على زمن النكبة، وآلام المفاصل من "شيل" الفؤوس، وأخرى ترتد على أيام الشقلبة، ورسم أطواق ورد حول الرؤوس!
لا عجب أن نفرح حين نسمع أغنية إذن، إن كانت ستصنفنا في خانة ما!