صحيح البخاري: عبقرية التأليف لبيان عظمة السنة النبوية (3-2)

أسامة شحادة

في الأسبوع الماضي تناولنا جوانب من شخصية البخاري الإبداعية وعبقريته الفذة والتي فصلها أ. د علي العجين في كتابه الفكر التربوي لكتاب العلم من الجامع الصحيح للإمام البخاري، ونواصل بيان جوانب من عبقرية تأليف البخاري لصحيحه. اضافة اعلان
إذ جعل البخاري لنفسه معياراً علمياً دقيقاً في انتقاء الأحاديث لهذا الكتاب لم يستطع أحد غيره من الالتزام به، ومن ثم بقي يطبق هذا المنهج لمدة 16 سنة برغم أنه يحفظ الأحاديث أصلاً ولكنه طور الفكرة لتصبح جمع الأحاديث الصحيحة على أبواب الفقه وهذا يحتاج حسن فهم وفقه وليس حفظ فقط، وهنا تتبين عبقرية البخاري وابداعه وأنه ليس محصوراً في دقة الحفظ، بل في عمق الفهم والفقه أيضاً بل هو الأصل.
هذا المعيار العلمي الدقيق والعالى جعل البخاري محدودا في الأخذ من محيط الأحاديث والروايات والأسانيد التي يحفظها والتي تبلغ 600 ألف، وبحسب الإمام ابن حجر فإن عدد أحاديث صحيح البخاري خالصة بدون تكرار (2602) حديثًا، ومع الأحاديث المعلقة المرفوعة وهي (159) حديثا يصبح المجموع (2761)، ومع المكرر من دون المعلقات والمتابعات (7397) حديثًا، وعدد أحاديثه بالمكرر والتعليقات والمتابعات واختلاف الروايات (9082) حديثًا فقط!!
ومن مظاهر عبقرية البخاري في تأليف كتابه الجامع الصحيح كما بين د. العجين ابداع تقسيمه وترتيبه، حيث جعله في 97 كتابا وكل كتاب فيه عدة أبواب، مما يدل على سعة فقه وتقسيمه للسنة النبوية لإبراز عظمتها وكنوزها. 
ولكن اختيار هذه الكتب وتقسيمها وترتيبها لم يكن كيفا اتفق بل هو يسير على منهج علمي صارم بحيث يكون تسلسل ترتيب الكتب له مغزى ومعنى وحكمة، حيث بدأ البخاري بكتاب بدء الوحي ثم كتاب الإيمان ثم كتاب العلم حتى ختم بكتاب التوحيد، وهو ما سماه د. العجين "نظرية التناسب في صحيح البخاري"، وقد أشار لهذا العلماء السابقين حيث لخص ابن حجر كلام الإمام البلقيني حول ترتيب صحيح البخاري فقال: "وقدمه- أي كتاب بدء الوحي- لأنه منبع الخيرات.. فذكر بعده كتاب الإيمان والعلوم...وكان الإيمان أشرف العلوم فعقبه بكتاب العلم، وبعد العلم يكون العمل، وأفضل الاعمال البدنية الصلاة ولا يتوصل إليها إلا بالطهارة فقال كتاب الطهارة.."، وهكذا يتبين لنا وجود ترتيب وتناسب في سرد الأبواب.
ولكن ينبهنا د. العجين أن هذا الابداع في الترتيب لا يقتصر على الأبواب بل أيضا هناك ابداع وعبقرية في ترتيب وتناسب كل باب من أبواب كتب البخاري! ثم هناك تناسب وترتيب بديع في سرد أحاديث الباب الواحد! ثم هناك تناسب وتنسيق بديع في اختيار الحديث الأخير في الباب، وأن يرتبط أخر حديث الكتاب وبداية حديث الكتاب الذي يليه!
وهناك تناسب بين أول حديث بدأ به البخاري صحيحه وأخر حديث ختم به صحيحه! وهناك تناسب بديع في اختيار عناوين الأبواب والأحاديث الوادرة فيه! وهو ما سنقف معه قليلاً.
إن البخاري جعل عبقريته في فقه وفهم السنة النبوية في عناوين الأبواب والتي أودع فيها فقهاً غزيراً وفهماً عميقاً حدا بعدد من العلماء لتأليف كتب كاملة لشرح فقه البخاري في عناوين وتراجم الأبواب منها: كتاب المتوارى على تراجم البخاري لناصر الدين أحمد بن المنير، وكتاب فك أغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة لمحمد بن منصور السلجماسي، وكتاب مناسبات تراجم البخاري لبدر الدين بن جماعة الشافعي.
وقد أبدع البخاري في هذه التراجم من خلال ربط القرآن الكريم بالسنة النبوية حيث أحياناً يكون العنوان آية قرآنية وجزء منها، وأحيانا يكون العنوان حديثا معلقا لأنه لم يستكمل شروطه في الصحة فوسع دائرة الاستشهاد ولم يخل بشرطه المعياري، وكذلك قد يتظمن العنوان أو الترجمة لقول الصحابة مما وسع دائرة اختيار البخاري في الفهم والفقه مع الحفاظ على شرطه في قوة الصحة، وهذا كله من ابداع التاليف والجمع الذي ربط قوة الحفظ واتساعه مع قوة الفهم وشموله.
هذه المنهجية العبقرية في تأليف البخارى لصحيحه لخصها د. العجين في مثلث: اشتراط أعلى درجات الصحة، الاستنباط الدقيق من الأحاديث، التناسب البديع في ترتيب الكتب والأبواب والأحاديث.
هذه المنهجية الصارمة هي التي جعلت البخاري يستغرق 16 سنة في جمع وترتيب صحيحه، بل كان البخاري يستيقظ من النوم فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره ثم ينام عدة مرات تكاد تبلغ 20 مرة في الليلة!
لكن النتيجة كانت أن البخاري بعد أن أنجز كتابه هذا وعرضه على كبار العلماء والمحدثين كالإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم فرضوه واشهدوا له بالصحة، وتقبلتهم من بعدهم الأمة بالرضى والقبول إذ سمة العبقرية والإبداع تقبل البيئة المجتمعية لها، فقرأ البخاري صحيحه على 90 ألفا من طلبة العلم في حياته، وبعد مماته فقد انتفع بكتابه هذا مئات الملايين وهذا ما يغيظ الأعداء ويجعلون البخاري في مركز هجومهم على الإسلام والسنة النبوية.