صداع إيراني مزمن للفلسطينيين

سببت التدخلات الإيرانية الفظة في المشرق العربي، بأذرعها الثقافية والمليشياوية، حالة صداع مزمن للحياة السياسية في غالبية البلدان ذات الفسيفساء الطائفية والعرقية، تفاوتت حدتها بتفاوت استجابة المكونات الاجتماعية، في هذا البلد أو ذاك، لغواية خطاب آيات الله المتستر بشعارات المظلومية، وأحابيل محو الغدة السرطانية الإسرائيلية من خريطة الشرق الأوسط، والمتساوق لاحقاً مع شعار الحرب ضد الإرهاب والجماعات التكفيرية، وذلك على نحو ما تجلت عليه هذه التدخلات منذ نحو عشر سنوات كئيبة.اضافة اعلان
كان التعايش ممكناً مع هذه التدخلات الكريهة، باعتبارها مجرد حالة صداع طفيف، يمكن الصبر على أعراضها المرضية، واحتمال آلامها التي تروح وتؤوب بين فينة وأخرى، وذلك إلى أن تحول الأمر مؤخراً إلى نوبات من الصداع النصفي، لا تنفع معها المسكنات ولا المراهم، خصوصاً بعد أن ضرب "الربيع العربي" ضربته القوية في بنية النظام العربي الشائخ، وانفتحت الأبواب على اتساعها أمام سائر التدخلات الخارجية، بما في ذلك الأطماع الإيرانية، الغاصة بأحلام إمبراطورية، سرعان ما كشفت عن نفسها بنفسها.
وفيما أبدت قلة من المجتمعات العربية مناعة ذاتية تحسد عليها، أمام غواية الشعارات الإيرانية، انفرط العقد الاجتماعي في عدد من هذه البلدان، وجرى تمزيق نسيجها الوطني، لصالح هويات فرعية، عمادها الهوية المذهبية المقيتة، تماماً على نحو ما حدث في العراق أول الأمر، وما جرى في سورية ولبنان، واليمن في النهاية؛ أي حيث وجود ثغرة تسمح لنظام الولي الفقيه مد يده الطويلة في أحشاء عالم عربي كان قد صفق يوماً للثورة الإيرانية.
ومع أن المجتمع الفلسطيني هو أحد المجتمعات العربية القليلة المعافاة من تداعيات الظواهر الطائفية والعرقية والمذهبية لحسن الحظ، إلا أنه كان أحد أكثر هذه المجتمعات عرضة للتدخلات الإيرانية، المحمولة على جناح مقاومة الاحتلال الصهيوني. وهو تدخل لم يقابل باعتراض أو تحفظ، لاسيما وأنه كان مصحوباً ببعض أنواع الدعم المالي والتسليحي، ومبرراً بالعداء لإسرائيل، إلى أن لعب هذا التدخل لعبته الجهنمية في تشجيع الانقسام الفلسطيني، واحتضان وتمويل أعمق صدع ضرب الحياة السياسية الفلسطينية.
ورغم أن إيران، التي حافظت على خطابها الديماغوجي إزاء إسرائيل، أوقفت تمويلها لحركة "حماس"، وهي أكثر المنظمات الفلسطينية تماهياً مع الجمهورية الإسلامية، إلا أن الحنين إلى أيام الدعم الإيراني ظل يستبد بالحركة الإسلامية المجاهدة، التي سبق لها أن غادرت ما كان يسمى "محور الممانعة"، فيما بقيت طهران ترخي الحبل ثم تشده للحركة التي كشفت بانسحابها الطوعي من دمشق، حقيقة الطابع المذهبي لهذا المحور، الذي انضم إليه نوري المالكي في العراق، وعبدالملك الحوثي في اليمن، وسائر المليشيات المذهبية الأخرى.
وبهذه التكتيكات البارعة، احتفظت إيران بنافذة مفتوحة على أكثر الساحات المناسبة لتسويق سياسة محاربة إسرائيل بالشعارات الكاذبة، وأبقت على الطُعم الميت في السنارة الطويلة، لاصطياد ما يعلق فيها من أسماك فلسطينية صغيرة، الأمر الذي خلق بيئة محلية مواتية، كي يواصل أصحاب العمائم السوداء لعبتهم القائمة على قاعدة إحداث أي انشقاق ممكن في العالم العربي، ومن ثم تعميقه وتحويله إلى انقسام، يؤدي إلى إضعاف العرب أكثر فأكثر، تمهيداً لإنفاذ أوهام استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية الغاربة.
ولعل ما تبدى مؤخراً من تدخلات إيرانية بالغة الفظاظة في الشأن الداخلي الفلسطيني، وما رافقه من هجمات كلامية ضارية ضد المؤسسة الفلسطينية الرسمية، هو الدليل بعينه على سعي طهران المتمادي في محاولاتها المحمومة لاختطاف القرار الفلسطيني، عبر رفع منسوب الانقسام في الساحة المفتوحة أمام كل أدعياء الجهاد والمقاومة، وإدامة حالة الصداع النصفي القائمة منذ عقد وأكثر، والمستمرة حتى الآن، رغم انتفاء مسوغاتها المستمدة من التقديمات المالية التي جف ضرعها عقب الفراق على خلفية تفاقم الكارثة السورية.
ما يؤسف له حقاً، أنه رغم كل التحولات في جوهر العلاقات بين طهران وبين المنظمات الفلسطينية الرئيسة، ما يزال هناك من يضرب بسيف إيران، ويمضي خلفها بعيون مغلقة، حتى وإن كان ذلك على حساب المصالح العربية الكلية، بل أساساً على حساب المصلحة الفلسطينية، وذلك على نحو ما تجلى في بيان تحالف القوى المقيمة في دمشق، المنحاز لطهران، ضد الشرعية الفلسطينية.