صراع الإعلام الجديد

على مدى سنوات، بات مألوفاً إعلان النعي المبكر لما يسمى الإعلام التقليدي، ولاسيما الصحافة الورقية. فبعد الفضائيات التي تقدم الحدث مباشرة وفي زمن وقوعه تقريباً، تتصاعد قوة حضور المنابر الكثيرة جداً التي تقدمها شبكة الإنترنت، وتحل مع منابر تكنولوجية أخرى "إعلاما جديدا" محل "التقليدي" المحتضر.اضافة اعلان
لكن الحقائق السابقة ذاتها تبدو دليلاً على خطيئة مثل هذا النعي، والمتمثلة في تعميمه بشكل مطلق "تقليدية" أدوات نقل المادة الخبرية، لتشمل أيضاً مضمون الصحافة والمجلات الورقية. فإذا كان صحيحاً تماماً أن الإعلام لا يملك إلا تنويع وسائطه الناقلة ليكون "إعلاماً جديداً"، يظل في المقابل جوهر الصراع على الإعلام متمثلاً في المهنية والمصداقية. وهاتان الخصيصتان الرئيستان، مع ما يندرج تحتهما من خصائص أخرى، يفترض أن تمنحا "الإعلام التقليدي" نفوذاً أكبر وأقوى لدى المتلقين، وليس العكس في زمن تنوع المنابر الإعلامية التي تتيحها الثورة التكنولوجية.
فمع تنوع المصادر الإعلامية، يبرز سؤال المصداقية والموثوقية والمهنية بشكل غير مسبوق ربما في تاريخ العمل الإعلامي. وهذا السؤال يمكن ترجمته بشكل قابل للقياس إلى السؤال المباشر: هل يمكن أن تخسر صحيفة قراءها، أو جزءاً منهم، لمصلحة مواقع الكترونية أو مدونات فردية؟ ويستتبع الإجابة عن هذا السؤال، طرح السؤال البسيط والأهم في آن: لماذا؟
إن ضعف الموارد البشرية والمادية المخصصة للمواقع الالكترونية والمدونات عموماً، وكذلك ضعف وحتى انعدام القدرة على مساءلة القائمين على هذه المنابر الجديدة، سمات يفترض بها إضعاف مكانة هذه المنابر وتأثيرها، باعتبار ذلك نتيجة منطقية لمحدودية المهنية بمعناها الواسع. إلا أن هذا الافتراض يغدو خاطئاً تماماً (وهنا الإجابة عن سؤال لماذا؟) في حالة خضوع المؤسسات الإعلامية "التقليدية" للسيطرة؛ سواء أكانت سيطرة حكومية-أمنية، أم سيطرة تمارسها الشركات والقطاع الخاص المتنفذ. وبناء على ذلك يبدو ممكناً تفسير رواج المواقع الالكترونية في البلدان التي تعاني من ضعف الحريات الصحفية خصوصاً، أو فيما يتصل بالقطاعات التي يلفها الغموض بحكم هيمنة رأس المال حتى في بلدان الديمقراطية الراسخة والمتقدمة.
ومن حقيقة هذا الواقع، يكون صحيحاً تماماً القول إن الصراع الإعلامي اليوم بين ما يسمى "جديداً" و"تقليدياً" ليس أبداً صراع أدوات تكنولوجية هي في متناول الجميع، بل هو صراع حريات؛ وفيها يخسر حتماً الإعلام الخاضع وإن كان مهنياً رصيناً، لمصلحة الإعلام الجديد "الحر" وإن وصل حد الانفلات والإثارة المستندة إلى الإشاعة والخرافة والتهويل.
باختصار، التحدي الذي يواجه ما يسمى "الإعلام التقليدي" هو تحدي الحرية، فيما يتجسد تحدي "الإعلام الجديد" في الارتقاء بالمهنية والمصداقية. وفقط بإدراك هذين التحديين، والاستجابة لهما من الأطراف ذات العلاقة، تكون الثورة التكنولوجية فرصة. أما البديل، وكما نرى في كثير من البلدان العربية، فهو مزيد من الانقسام وتعميق أزمة الثقة بين مكونات المجتمع، كما بين المجتمع ككل وبين السلطة؛ وهو ما لا يعقل أن يكون هدفاً لمواطن، أياً كان موقعه.

[email protected]