صراع على الخلايا

أتحفتنا لجنة أخلاقيات البحث العلمي في مركز الحسين للسرطان؛ بعرض فيلم "الحياة الخالدة لهنرييتا لاكس" والذي يروي قصة المرأة الأميركية من أصول إفريقية والتي رغم مرور أكثر من ستة عقود على وفاتها بسرطان عنق الرحم، ما تزال خلاياها حية، تجوب أسقاع العالم، وتمتلئ بها أنابيب المخابر مانحة فرصاً للشفاء لملايين المرضى. فقد قام الأطباء في جامعة هوبكنز بإرسال بعض الأنسجة التي أخذت من ورم هنرييتا إلى أحد الباحثين والذي فوجئ خلال دراسته لهذه الخلايا أنها بخلاف الخلايا الأخرى فانها لا تشيخ ولا تموت وتستمر بالانقسام بلا توقف ولا كلل، ففي العادة تنقسم الخلايا بضع عشرات من المرات قبل أن تشيخ وتتوقف عن الإنقسام، لكن هذه الخلايا واصلت النمو والانقسام في الوقت الذي كانت فيه هنرييتا تذوي وتضمحل إلى أن قضت أجلها العام 1951. لقد ساهمت هذه الخلايا والتي أطلق عليها اسم "خلايا هيلا" بانقاذ حياة ملايين البشر من خلال الأبحاث التي أجريت عليها ومن أبرزها لقاح شلل الأطفال وبعض أدوية السرطان وغيرها، وارتبطت بأكثر من إحدى عشرة براءة اختراع وجائزتي نوبل وكتب عنها عشرات الآلاف من المقالات الطبية. لكن الجدل الأخلاقي حول هذه الخلايا لم ينتهِ إلى يومنا هذا، فهذه الخلايا أخذت دون موافقة صاحبتها التي لم تكن تعلم أن خلاياها ستكون مادة للبحث وأنها ستجوب مخابر العالم،كما أن المختبرات قد جنت ملايين الدولارات من ورائها، فهل يحق لورثة هنرييتا المطالبة بنصيب في هذه الأموال ؟، بل هل تورث الخلايا للأبناء كما تورث المادة ؟، ثم هل كانت هنرييتا ستحظى بنفس المعاملة لو انها من اصحاب البشرة البيضاء ؟، هل من حق المخابر نشر شيفرة هنرييتا الوراثية وبالتالي شيفرة أحفادها على الملأ دون علمهم ؟. هذه الأسئلة وعشرات غيرها ما زالت خلافية وينقسم حولها الناس فيما إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة، وأن إنقاذ حياة الملايين أولى من مجرد أوراق يوقعها الشخص؛ مدار البحث من مبدأ تغلب المصلحة الجمعية على الحرية الفردية، لكن من جهة أخرى؛ ماذا لو خلصت هذه الأبحاث إلى نتائج قد لا يرغب الشخص أو أهله في معرفتها ،أو حتى كشفها على الملأ مثل احتمالية الإصابة بمرض ما ،أوالاستعداد الوراثي له، أو كيفية التعامل مع النتائج العرضية الأخرى مثل إثبات أو نفي الأبوّة أو غيرها من هذه النتائج. قد يعتقد البعض أن طرح مثل هذه المواضيع يأتي من باب الترف العلمي؛ لكنها تبقى قضايا أخلاقية شائكة ‘وسنتعرض لها قريباً فهل نحن مستعدون لذلك، وهل بنيتنا التشريعية والقضائية قادرة على التعامل مع هذه القضايا؟!! . قد يجد البعض في غياب التشريعات الناظمة لأخلاقيات البحث العلمي فرصةً مناسبة وحرية مرغوبة، لكنّي أراها تحمل في ثناياها عواقب وخيمة على الفرد وعلى المجتمع إذا ما أسيء استخدامها ؛ لذلك نحن بحاجة الى تأطير اخلاقي وقانوني مستنير ينظم هذه المسائل، ويستوعب الخصوصية الثقافية والاجتماعية لمجتمعنا.اضافة اعلان