صعود الشيعة ما بعد احتلال العراق

ثمة ظاهرة لافتة حول المد الشيعي، وهي أنه بالغزو الأميركي بلغ ذروته وأقصى قوة في تاريخه، وتحولت "الكتلة الشيعية" اليوم إلى قوة عالمية ممتدة على خريطة العالم الإسلامي تمثلها دول وجماعات ومنظمات ومؤسسات متنامية، وكانت قوتها الجديدة في العراق قوة إضافية لجميع الشيعة في العالم، وربما تكون مبالغة مقولة الإيرانيين اليوم "إننا القوة الأولى في العالم" ولكنهم بالتأكيد قوة عالمية واعدة أصبحت بمصاف القوى العالمية العظمى إلى جانب روسيا والصين وأوروبا والهند، ويبدو أنها تشكل تحديا ليس سهلا للولايات المتحدة الأميركية.

اضافة اعلان

يعرض ولي نصر، مدير مركز الدراسات الإيرانية في كتابه "صحوة الشيعة" الصادر مؤخرا، لتأثير الغزو الأميركي للعراق في صعود الشيعة، إذ كان الغزو في حقيقته انتصارا إيرانيا وشيعيا، وتشكلت في أعقابه صحوة شيعية شملت العالم الإسلامي، وأدت بطبيعة الحال إلى نزاعات وأزمات طائفية على امتداد العالم الإسلامي، وأعادت إلى مرحلة البحث في التاريخ الإسلامي وتشكل الفرق والطوائف.

يسمي ولي نصر التشيع بـ"الإسلام الآخر" ولا يعني بذلك نفي الإسلام عنهم، وبالمناسبة فهو شيعي، ولكنه يقصد جانبا آخر من الإسلام أو تطبيقا مختلفا. فالشيعة يظهرون برأيه وجها مميزا للإسلام، يقوم على التعلق بالقيم الروحية والانفعالات الوجدانية، تشكل فيه الاحتفالات المهيبة بيوم عاشوراء واحدا من الرموز الخاصة بهم، والتي تظهر رؤيتهم المتفردة القائمة على تبكيت الذات والكفارة الجماعية والندب وجلد الذات.

وكثيرا ما يشتط الشيعة في احتفالاتهم رغم أنها احتفالات لم ترد في القرآن، إلا أنها مع ذلك تمثل أهم وسيلة توحد الشيعة وتربطهم بمذهبهم، وكما صنعت الصراعات الدينية السياسة في أوروبا، فإن النزاع الديني بين السنة والشيعة كان هو الطابع العام للتاريخ في العالم الإسلامي والشرق الأوسط الكبير، بدءا بالخلاف بين علي ومعاوية ثم الخلاف بين الأمويين والعباسيين والحروب والصراعات الممتدة على خريطة جغرافية وتاريخية واسعة وممتدة.

ولكن مع الزمن والأحداث التاريخية تبلورت لدى الشيعة طقوس ومفاهيم متميزة وخاصة بهم، يشكل استشهاد الحسين بن علي حدثا غير عادي من بينها، وتجليا ميتاتاريخيا (يخرج عن النطاق التاريخي الواقعي والمألوف).

يقول الشيعة بأنه قبل أن يكون هناك إسلام وقبل مولد الحسين وجد الجوهر الروحي لمأثرة الحسين الكبرى كتعبير أزلي سرمدي عن العناية الإلهية، ويزعمون أن كربلاء ودلالاتها كانت معروفة لدى جميع الأنبياء ولدى علي.

كربلاء في الوجدان الشيعي ليست مجرد مذبحة دامية، بل هي تدخل إلهي قصد لمنح المسلمين معلما روحيا حقيقيا، إذ قبل الحسين عن طيب خاطر الاضطهاد، وتقبل الشهادة كمنة ربانية، فحول بذلك آلامه ومعاناته إلى معنى أسمى وهدف أنبل، وفي هذا كما يرى المؤلف تعريف قاطع ومانع للشيعة.

ولذلك فإن الفرق، كما يرى ولي نصر، بين الشيعة والسنة ليس في العبادة ولكن في الروح التي يؤول بها الإسلام، فالفهم السني يتمحور حول الأخذ بإرادة الأكثرية والقوة الشرعية لإجماع الأمة، ولكن التشيع لا يعير أهمية لرأي الأكثرية في المسائل الدينية.

فالحقيقة عند الشيعة غير منوطة بجماعة المؤمنين، وإنما هي حق مكتسب من حقوق القيادة الصالحة للنبي والمتحدرين من صلبه، أو كما يعرف البعض الفرق بين السنة والشيعة أن السنة يعظمون النبي لأنه نقل الرسالة، ولكن الشيعة يعظمون الرسالة لأن النبي هو الذي نقلها.

ولكن التحدي الأكبر للخلافة والقيادة السياسية جعل المسألة الشيعية على الدوام قضية معقدة، فالثورات والخلافات الدائمة بين الأمويين ثم العباسيين وبين قادة الشيعة جعلت السياسة تتفاعل مع الدين على نحو أكثر تعقيدا وخطورة.

فقد أدى اضطهاد الشيعة إلى نشوء جماعات سرية ومبادئ لتنظيم العمل مثل "التقية" ثم العزلة الاجتماعية للشيعة على نحو يشبه ممارسات يهود الدونمة الأتراك الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام ويخفون في الوقت نفسه هويتهم وديانتهم اليهودية.

فبدخول الإمام الثاني عشر حسب المعتقدات الشيعية في حالة استتار إعجازي تشبه الحالة الخلاصية التي يعتقد بها اليهود والمسيحيون والزرادشتيون قبل أن تكون العودة لإحلال العدل التي يؤمن بها أيضا اليهود والمسيحيون كل على شاكلته.

وقد أتاح هذا الغياب لعلماء الشيعة أن يتمتعوا بمكانة روحية امتيازية لم يعرفها نظراؤهم السنة، لأن علماء الدين السنة لا يختلفون عمن سواهم من المؤمنين سوى أنهم يعلمون بأمور الدين.

وقد عزز من هذه السلطة التي يتمتع بها العلماء الشيعة حالة العزلة التي يعيشونها والملاحقة التي نفذت فيهم من قبل القيادات السياسية والمجتمعية من السنة.

وقد طور الإمام الشيعي السادس جعفر الصادق في القرن الثامن الميلادي فقها شيعيا يعرف بالمذهب الجعفري منفصلا عن العلم الشرعي السني الذي جرى تصنيفه وتقنينه في الزمن نفسه، ويختلف عن المذاهب السنية في مسائل تتصل بالميراث والخمس والتجارة والأحوال الشخصية، وزواج المتعة المؤقت.

إن الرابطة القائمة بين الشيعة ومرجعياتهم الدينية شبيهة بتلك القائمة بين الجاليات اليهودية في أوروبا الشرقية وحاخاماتها، أو بين الجماعات الكاثوليكية التقليدية وقساوستها، وفي واقع الأمر فإن آيات الله أشبه ما يكونون بالكرادلة، وإن كان التشيع ليس له حبر أعظم (بابا).