صغيرة على "البهدلة"!

أنا الطفلة ابنة الطفلة! هذه هي هويتي باختصار، بعد أن مسحت قسوة الحياة بقية خانات الهوية. أمي، رحمها الله، تزوجت وهي في سن السادسة عشرة من عمرها من أبي الذي لم يكن يكبرها إلا بثلاث سنوات. زوجتها العائلة وهي في سن صغيرة لكي ترتاح من عبئها الضئيل الذي لم يكن يتجاوز لقمة تسد رمق جوعها، وقليلا من مستلزمات أي فتاة كانت بعمرها، رغم أحوال جدي الميسورة وأعماله التجارية الناجحة. أقول كانت لأن والدتي لم تر يوما جميلا واحدا في حياتها القصيرة، سواء في بيت أهلها أو عند أبي للأسف الشديد. أنا الطفلة التي فتحت عينيها على مشاهد الضرب والتعنيف والاحتقار من قبل كل من كان يقطن معنا في بيت ضم أعماما وعمات وجدين لا يرحمون. وفوقهم والدي سامحه الله، طفل هو الآخر وجد نفسه مسؤولا بين ليلة وضحاها عن أسرة مكونة من أربعة أفراد، لم يستطع أن يوازن بين متطلباتها الطبيعية الضرورية، وبين أهوائه الصبيانية من مخدرات وكحول وسهر وضياع بكل ما تحمل الكلمة من معنى. تربيت بين أصوات الضرب والعنف والشتائم، وبين أنين أمي آخر الليل وهي تحتضننا بدمعها وارتجافات قلبها الموجوع. وفي يوم لن أنساه ما حييت، وبينما كنت في طريق العودة من المدرسة الابتدائية، وجدت غفيرا من الناس يتجمعون حول منزلنا، وسيارات الشرطة والإسعاف تحت باب البناية. شعرت وقتها بدنو الخبر الذي لطالما خفت أن أصحو على وقعه، ولكنني كنت متأكدة أنه حاصل لا محالة! نعم، قتلت أمي على يد والدي. هكذا وبكل بساطة سمعت بالخبر، فركضت كالمجنونة إلى الشقة الصغيرة التي كانت تضم عائلتنا الحزينة، لأجد جثتها ممددة في منتصف الصالة، ووالدي يمثل جريمة الضرب المودي إلى الموت أمام أفراد الشرطة والبحث الجنائي. اسودت الدنيا في عيني أكثر مما كانت وقد كنت في الصف الثاني الابتدائي. وأصبحت فجأة مسؤولة عما تبقى من عائلتي الضعيفة المرتجفة المظلومة؛ أخ في الرابعة وأخت لم تتجاوز العام من عمرها. بطبيعة الحال، وبعد أن حوكم والدي بالسجن لعشر سنوات، عدنا إلى منزل أهل والدتي التي لفظوها بدورهم قبل سنوات عدة، بحجة العادات والتقاليد وضرورة الزواج المبكر. عدنا ثلاثة أفراد لا نملك حيلة أمام جبروت الجد وبناته وأبنائه، الذين تعاملوا معنا كحمل ثقيل كل يرميه على الآخر بقسوة وغلظة. لم نصادف يوما حنونا يربت على أكتافنا الصغيرة، ويطبطب على جراحنا المفتوحة، أو يمسح دموعنا الليلية على الوسائد الصلبة. كانوا يعايروننا بأبينا القاتل، وبأهلنا الذين رمونا عظاما طرية بعد موت والدتنا المسكينة. اليوم، وبعد أن توفي جدي رحمه الله وسامحه على ما فعله بنا، أجد نفسي وإخوتي نتجرع من ذات الكأس المر، بعد أن حرمنا القانون من ميراثه مرتين؛ مرة لأننا أبناء البنت، ومرة لأنها متوفاة أصلا! عمري لم يصل بعد إلى الحادية عشرة. وإخوتي ما يزالون يتحسسون طريقهم الصعبة المؤرقة. أعمل بائعة مناديل ورقية أمام الإشارات المرورية، بين سيارات لا ترحم سنين عمري، كي أؤمن لنا ما يمكن أن يرفع عنا عبء التمنين باللقمة والسكن. أخرجوني من المدرسة كي أخدم أخوي الصغيرين ولست منزعجة من ذلك. فأملي بالله عظيم أن تستقر العدالة يوما ويعوضنا ربنا خيرا من أيام العذاب. ملاحظة: هذه الرسالة كتبها على لساني شخص بالغ راشد يجيد القراءة والكتابة، ويكره الظلم!اضافة اعلان