صلاحية برنامج الحكومة!

اكتفى المواطنون حتى الساعة بصبّ جام غضبهم على النواب الذين مرروا الموازنة، لكن غدا ستكون الحكومة وهي تطبق رفع الأسعار وجها لوجه مع المواطنين. لست من هواة التهويل؛ ولكن أرى الضيق العام يتعمق كل يوم. وللعلم فالخبز قد لا يكون المشكلة، بل رفع ضريبة المبيعات على العديد من السلع الذي سيكون له أثر التفاعل المتسلسل، وإطلاق موجة عامة من الغلاء ستشمل أيضا كل المنتجات التي كانت تعتمد على تسريب الطحين المدعوم، موجة غلاء جديدة في وقت تعاني فيه الأجور والوظائف والأعمال الحرة من الركود.اضافة اعلان
الدولة التي كانت ذات يوم أكبر مستثمر في الاقتصاد تبدو اليوم كأنها طفيلي ضخم يجلس بثقله الزائد على بطن الاقتصاد، ذات يوم كانت الدولة تمول إنشاء المشاريع الكبرى التي يعجز عنها القطاع الخاص وتوسع الاقتصاد وتشغل الناس، وهي اليوم تأخذ من الاقتصاد ومن جيوب الناس. وبعد الخصخصة أصبح التنظير الاقتصادي يقول إن دور الدولة هو فقط تشجيع وتحفيز الاستثمار الخاص، لكن الممارسات ظلّت طاردة للاستثمار؛ ويكفي النظر الى العدد الهائل من المصانع التي انتقلت إلى مصر والمال الأردني المستثمر في الخليج. والنتيجة أن أفضل ما تجتهد فيه الحكومات هو أن تجمع من المواطن بالقروش ما تهدره بالملايين. نعترف أن الحجم الأساسي من الموازنة يذهب للنفقات الضرورية وللخدمات والبنى التحتية، لكن ثمة امتيازات زائدة وهدر وفساد يرفع العجز ويفاقم الدين ويستهلك المساعدات.
نعم واردات الدولة هي بالضرورة من جيوب المواطنين، لكن في ظروف الشدّة لا يحتمل المواطن أن يرى استمرار الهدر والامتيازات، والواقع أن إجراءات ضغط النفقات ظلّت هامشية، ولم نر قرارات ثورية تكتسح أعشاش الامتيازات. وما تزال السياسة الضريبية هي الأسوأ، فالبلد متخم بالمال بين أيدي الأثرياء، لكننا نذهب إلى القروش القليلة في جيوب الناس والتي تصرف كلها على الاستهلاك، فنرفع الضريبة على الاستهلاك (ضريبة المبيعات)، فيكون الأثر انكماشيا على السوق، لأن المواطن سيشتري كمية أقل من السلع بنفس المبلغ. وكنا قد قلنا غير مرّة أن الحلّ في الاعتماد أكثر على ضريبة الدخل من الأثرياء وإنشاء صندوق مساهم للمسؤولية الاجتماعية يقتطع حصّة مهمة من الأرباح إلا إذا أنفقت على الاستثمار.
يمكن المجادلة في السياسة الضريبية باعتبار ما نقول اجتهادات خلافية، لكن سأستعين هنا بوجهة نظر منتدى الاستراتيجيات الأردني الذي يقدم رؤية وتحليلات رزينة ومسؤولة، ولم أفاجأ أنه يقدم حول السياسات الضريبية رأيا مطابقا لما أطرحه، تقرير المنتدى لموازنة 2018 يوصي حرفيا بما يلي: تقليل درجة الاعتماد على الضريبة العامة على السلع والخدمات، ورفع الكفاءة في تحصيل الضرائب من فئة الأفراد (القطاع الخاص)، ويشرح التقرير أن الجهد الضريبي (نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي في الأردن) هو بحدود %15  وليس عاليا، أما حصة ضريبة المبيعات منه فهي عالية جدا وتفوق معظم الدول، إذ تصل إلى 70 %، بينما هي في فرنسا %24، وتصل إلى أعلى مستوياتها في تركيا بنسبة 43 %. ويقدم التقرير أرقاما صادمة عن ضآلة نسبة ضريبة الدخل على الأفراد (القطاع الخاص باستثناء الشركات المساهمة العامّة)، فهي لم تتجاوز 2,8 % العام 2010، وهي تتراجع كل عام وستنزل إلى %1,6  العام 2018، بينما متوسط هذه النسبة في الدول المتقدمة تراوح بين 15 % إلى 20 %.
الحكومة تتخلى عن مسؤوليتها في الاضطلاع ببرنامج إصلاحي جذري للنهوض، وتستمر بنفس الاتجاه التقليدي للتصحيح الذي يديم التشوه الاقتصادي ويفاقم الركود، ولا بد أن تغير نهجها أو تتغير.