صناعة الاستقطاب

أردوغان مثال حي على فضل الدولة المدنية، فقد صرح غير مرة أنه شخص غير علماني يحكم دولة علمانية، وبهذا فإن قيادة حزبه لدولة «علمانية» مثال حي على تحضر الفكر المدني غير المعادي للدين والتدين، ويجب أن يكون من هذه الزاوية سندا لدعاة الدولة المدنية، وحجة على الفكر الإقصائي الذي يرى العالم من سَمِ أيديولوجيته الخاصة التي تقوم على إنكار وإلغاء الآخر سياسياً أو دينياً أو اجتماعياً.اضافة اعلان
وأنا هنا لا أريد أن أقيم مدنية وعلمانية أردوغان أو تركيا البلد الذي نقدر نجاحه وخدمته لمواطنيه، أريد فقط أن أذكر أن أردوغان غير العلماني، الملتزم دينيا، والذي دشن آيا صوفيا مسجدا واعتبر ذلك إنجازاً عقائدياً، فإنه في ذات الوقت يحكم دولة تنتج أفخر أنواع الخمور، وتحتل المرتبة رقم 35 في صناعتها، ويذكر أن في تركيا حسب تقارير صحفية حوالي 250 مصنعا ضخما للخمور، وتركيا رغم أي انتقادات تريد أن توجهها لممارسات الحزب الحاكم إلا أنها من أقدم ديمقراطيات المنطقة، وإن استقلالها الاقتصادي أهلها لتقييم تحالفاتها السياسية والعسكرية على أسس مصالحها العليا، وليس على مسطرة الفقه أو العقيدة أو «حبها» للعرب والمسلمين، وهذا ما يُتوقع من حاكم في دولة مدنية أن يفعل.
في الأردن، تركيا وأردوغان مجال استقطاب في الشارع السياسي وعلى وسائل «التنابذ» الاجتماعي التي تشهد حالة نزاع شديد يهاجم فيه «التقدميون» أردوغان، ويمجد فيه «الإسلاميون» هذا الخليفة المرتقب، في حين أن أردوغان كمسؤول براغماتي يمارس في الحكم مدنية واقعية سياسية، نهضت بتركيا اقتصاديا وسياسيا لمراتب عليا هي محل إعجاب العالم أجمع.
معارك وسائل «التنابذ» الاجتماعي حول أردوغان مثال على المعارك الدونكيشوتية، والتي تشكل توظيفا عبثيا يقوم على كثير من الأغاليط المنطقية في التحليل والحوار، حوار أبعد ما يكون عن أبسط أنواع الحوار السياسي المنتج حيث يتمترس فيه كل طرف حول اعتقاد مسبق نهائي مطلق غير قابل للمراجعة أو الفهم؛ لا طرف منهم يدخل هذا الحوار بنية الفهم، بل بنية الفرز والتصنيف بين الأعداء والأصدقاء على قاعدة كل من لا يتفق معي فهو عدو لي، وما يترتب على ذلك من التهجم والهجوم.
إن مثل هذا الاستقطاب السياسي ليس عملا بريئا من الناحية النفسية ذلك أنه يشكل في ظني آلية «تنفيس» عصبي ونفسي حيث نعود نحن «محاربو الكيبورد» بعد كل غزوة نغزوها على وسائل «التنابذ» الاجتماعي وقد «شفينا غليلنا»، ووضعنا النقاط على الحروف، ورسمنا لكل مخالف حده ومقداره، مع حقيقة بسيطة مفادها أن شيئا مما ندعو إليه أو نتمناه أو نعتقد أننا نقاتل من أجله لم ينجز على أرض الواقع وأن نضالنا «الافتراضي» هو وهم وسراب أمسى مخدرا نعتاش عليه من ناحية سياسية، ونكتفي بلقب ناشط اجتماعي أو «انفلوونصر»، وأمورنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في هذا الوطن العربي الكبير «المسخم»، ـ منذ وعد بلفور وبعد ـ، رغم جميع الحروب الشخصية والحزبية والدعوية ما زالت على حالها لا بل إنها تسوء يوماً بعد يوم.
من حق الجميع أن يصطف مع ما يعتقد به ويؤمن به ولكن الواقع يشير أن منهج الهجوم والتهجم وملاحقة ومحاولة هدم وتفنيد معتقدات ومبادئ الطرف الآخر، لا يعني بالضرورة تحقيق ما نؤمن به أو نعتقده أو نسعى من أجله، المجتمعات تقوم على البناء الذاتي للمعتقدات والأفكار والأخلاق والمبادئ، حتى إن كانت هذه المعتقدات والأفكار والأخلاق والمبادئ هي حقاً ما ينفع الناس، فإنه بتبنيهم لها تقوم قائمة المجتمع ويحصل ما نسعى إليه من تحضر وتطور، فاهم علي جنابك؟!!.