"صوت العقل" المغيَّب..!

كتب المفكر الكبير نعوم تشومسكي في تزكية إحدى المجلات الرصينة: "لا مبالغة –للأسف- في قول إننا نعيش في عصر من اللاعقلانية، والخداع، والارتباك، والغضب والخوف من المجهول -مزيج مشؤوم، لا سابقة له تقريباً. وما من وقت تمس فيه الحاجة إلى صوت للعقلانية، والبصيرة وفهم ما يحدث في العالم، مثل هذا".اضافة اعلان
كانت أصوات العقلانية تحضر كل الوقت لتعيد البشرية إلى جادة الصواب التي كثيراً ما تحيد عنها. لكن حالة عصرنا التي يصفها تشومسكي بدقة، تعني أن هذه الأصوات لا تُسمع أمام قعقعة السلاح والخطاب العدواني العالي. ويبدو أن المنصات كلها أصبحت محجوزة لدعائيي السلطات التي تحتكر الخطاب. وحتى "الإنترنت" الذي يُفترض أن يتيح مساحة للتعبير، أصبح مصادراً هو الآخر بالحجب والرقابة ومحاسبة المُداخلين.
الآن، تعلو بشكل خاص أصوات الشعبويين من كل الأنواع، الذين يحشدون مجموعات مصلحة صغيرة حول مشتركات ضيقة، بهدف تمييزها عن مجموعات مصلحة أخرى منفصلة بنفس المقدار. وينتج ذلك تعددية غير مسبوقة في "الحقائق" التي تقيم عليها المجموعات عقائدها، وسلوكها. والنتيجة: مقدار هائل من العدوانية بين القوميات والأديان والجنسيات والأجناس – وفي داخلها أيضاً. ولم يَعد مصطلح "القبَلية" مقصوراً على الثقافة العربية التي اشتُهِرت به، وإنما انتشرت "القبائل" في كل مكان، حتى في ما يُدعى العالَم "الديمقراطي" الذي روج لأفكار المساواة والاندماج والتعددية الثقافية. وعندما يفوز الساسة في العالَم المهيمن على برامج كراهية الأجانب والمهاجرين والآخر المحلي أيضاً (الملونين مثلاً)، فإن حلُم مجتمع المساواة والفرصة والتعايش ينهار في منبعه.
حتى أن مفهوم "صوت العقل"، لم يكن في أي وقت أكثر ضبابية وتجسيداً لنسبية الأحكام مثلما هو الآن. سوف يرى ناخبو ترامب "صوت العقل" في خطاب التفوقية البيضاء والاستثنائية الأميركية؛ وسوف يرى أتباع الأيديولوجيات المتطرفة "صوت العقل" في إكراه الآخر على أن يكون مثلهم، أو إبادته إذا أمكن. وسوف ترى "الأمة" صوت العقل في مصادرة حصة الأمة الأخرى، وترى الوحدات الفرعية داخل الأمة صوت العقل في الهيمنة على الوحدات الأخرى وتهميشها.. وهكذا. وليست في العالم منطقة غام فيها مفهوم "صوت العقل" وتضاعفت تعريفاته المتناقضة تماماً في كثير من الأحيان، مثل منطقتنا. وكما يبدو، أصبح "صوت العقل" الأكثر رواجاً هو ذلك الذي ينجب العداء، ويضيّق المصلحة، ويعظِّم الأحقية الذاتية، ويكره الاستنطاق، ويرفض الاقتراح، ويحتكر الحقيقة. وليست هذه "التعددية" عرَضاً صحياً كما ينبغي للتعددية، وإنما أعراض للتيه ورد الفعل الخائب على أحداث تصنعنا ولا نصنعها -على المستوى الجمعي والفردي على حد سواء.
في أوقات كهذه، يصبح "صوت العقل" الحقيقي محاصراً ومعزولاً ويغري صاحبه بالصمت. وينبغي أن تقاس عقلانية الصوت بنتائج ما يدعو إليه: المصالحة والتسامح والسلام، ومنح الحقوق لأصحابها، وتقليل أسباب السخط، واختيار التفاوض على العدوانية، وتحييد فكرة "من ليس معي عدوي" –كل ذلك كمصلحة ذاتية وإنسانية في نهاية المطاف. أما الدعوة إلى القتال –على أي مستوى- بقصد انتزاع حصة الآخر والهيمنة عليه وإقصائه، فلا عقل فيها. ومن المؤسف أن تكون هذه الدعوات هي الرائجة، حتى أصبح العالم مجنوناً وبلا ضمير ولا ينجو فيه أحد.
من الصعب جداً الإفلات –محلياً- من هذه العدوى العالمية. لكن من ضرورات المحاولة –كما يقترح تشومسكي- إتاحة الفرصة لصوت العقل ليعلن عن نفسه، وتيسير وصوله والاستماع إليه. ويشير هذا الاقتراح بوضوح إلى الإعلام –المنصات والمنابر والمطبوعات والمرئيات التي يُفترض أنها تصنع الرأي العام وتشخص النواقص والعيوب. ويسمى المطلب "حرية التعبير"، أو "حرية الصحافة"، بمعنى الكف عن توجيه الخطاب وأحَادية السرد. أما إذا كان السرد الرائج منفصلاً عن واقعه وعاجزا عن الإقناع أو التغيير الإيجابي بطريقة يُعتد بها، فذلك أدعى إلى سماع السرديات الأخرى، كضرورة للخروج من المأزق.
يتطلب ذلك اعترافاً بالأزمة، وإرادة سياسية تريد المراهنة على الأصوات التي تسترشد بالعقل والبصيرة وفهم ما يحدث في العالم، كما يقترح تشومسكي، لمعرفة تضاريس الطريق. وسوف يحتاج الإعلام إلى فتح نوافذه، وتخليصه من الرعب والرقابة الذاتية وأحادية الصوت، وسماع اقتراحات وروايات بديلة عن روايات النخب "الموالية" المصنّعة، عل ذلك يشيع صوت العقل وينير معالم الطريق.