صورة الدولة والسياسة الخارجية

في معظم دول العالم الديمقراطية وشبه الديمقراطية ترتبط السياسة الخارجية بصورة الدولة أكثر من كونها جزءا من سلوك الحكومة وممارساتها ذات القابلية للاختلاف حولها. لذا، نلاحظ في حالات كثيرة كيف تلتقي قوى المعارضة حول السياسة الخارجية ما دامت تعبر عن مصالح وطنية وتتصف بالشفافية والوضوح، ويحدث الافتراق حينما تتعدد تعريفات المصالح الوطنية، كلما ازدادت السياسة الخارجية غموضاً، ولعل ما سبق يصلح ان يكون احد التفسيرات التي تجعل السياسة الخارجية حيال الأزمات الإقليمية وآخرها الأوضاع اللبنانية من دون أنصار حقيقيين، رغم ما توفر في بعض تفاعلات هذه السياسة من موضوعية في تقدير المصالح الوطنية وربما حسن النوايا.

اضافة اعلان

ولأن حسن النوايا وحده لا يقي ولا ينفع في إقليم تتصارع فيه ماكنات الدعاية وتتكاسر فيه الأقلام فإن سلسلة الأزمات التي أحاطت بالمنطقة خلال العامين الماضيين قد أثبتت ان الدولة الأردنية بمؤسساتها ونظمها وبعد (85) عاما من ممارسة السياسة، في إقليم شهد قرناً كاملاً من الطوارئ التاريخية والصراعات، لم تستطع خلق طبقة من المثقفين الوطنيين المستقلين للدفاع عن قيم الدولة والانتصار لها، ظالمة أو مظلومة، بالنقد الموضوعي البناء أو بالمناصرة والمساندة. بل نشاهد كيف تعيد بعض المؤسسات إنتاج جيل من السياسات الإعلامية اقل ما يقال حولها ان الأردن كان يرفض الرد عليها حينما كانت تمارس ضده، قبل عقود، وفي نسخ قديمة من الحروب العربية الباردة.

يحدث ذلك في زمن صدام الاستراتيجيات الإقليمية والدولية وتشابك المصالح وتعقيدها وازدياد حدة التنافس، وفي زمن تطورت فيه تقنيات التسويق السياسي وتقدمت أضعافا مضاعفة حتى ان بعض الأطراف في المنطقة تحسب حساب التسويق السياسي قبل السياسات نفسها، وتمارس ما يسمى بالإعلام التحضيري الذي يهيئ المسرح للإحداث ويعد الرأي العام ويجعل له في كل مكان وفي كل قضية أنصارا. ويلاحظ الجميع كيف أصبحت دول وكيانات كانت تعتاش على التحريض والتعبئة تجيد توظيف أحدث نظريات التأثير الإعلامي وتستخدم فنون الاستمالات الاقناعية ببراعة ليس بفضل الوسيلة وحدها، بل بالقدرة على تسخير المعرفة الإعلامية الجديدة وتطويعها لمصالحها.

مشكلة السياسات الأردنية الخارجية في الأزمات الإقليمية انها تفتقر للتعبير الواضح، ولديها جاذبية للبقاء في المناطق الرمادية ما يجعلها سياسات غير شعبية، ولا تلاقي الترحيب أو الجاذبية الإعلامية في الخارج، وفي الداخل تعجز أدوات التسويق السياسي المحلية عن تحويل انتباه الناس نحو ما يحتاجونه بالفعل بدل ما يريدونه أو ما يتمنونه، وثمة فرق كبير بين الأمرين.

هذه الحالة من الإرباك تجعل النيل من تلك السياسات مهمة سهلة، في الوقت الذي تختفي فيه الحدود بين إعلام داخلي وآخر خارجي، وقد لاحظ المتابعون كيف حوّل اقتناص المصالح المهمة النبيلة للمستشفى الأردني في بيروت، وكيف تم تصوير الجسر الجوي، وصولاً إلى ما تردد حول تفتيش الطائرات المتوجهة إلى لبنان. وقبل ذلك خسرت السياسة الخارجية الأردنية إعلاميا قصة تهريب الأسلحة الإيرانية من قبل عناصر حماس في الخارج في ضوء سياسات تفتقد الشفافية والوضوح وتفتقر للغطاء الإعلامي المهني، حتى اضطرت السلطات ان تمنع صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية، المفترض انها قريبة من نبض السياسة الأردنية، من التوزيع في عمان؛ لمجرد وجود مقال عتاب من كاتب كبير من عيار فهمي هويدي. والحالة نفسها لها أمثلة عديدة في عهود حكومات متعددة منها موقف وزير الخارجية السابق في مؤتمر وزراء الخارجية العرب حول ما سمي (مبادرة التطبيع الأردنية) التي فشل الإعلام وتردد حتى في الاسم الذي حملته.

المسألة تتجاوز مضمون السياسات في بعض الحالات على أهميته، والموقف منها على ضرورته، وتنال صورة الدولة والوطن وما يبقى في التصور الجمعي والبناء المعنوي للناس، فأعدل القضايا في التاريخ كانت قضايا خاسرة حينما أوكلت مهمة الدفاع عنها إلى أسوأ المحامين.

ليست المهمة ان يدرك النظام الفلاني أو الدولة العلانية حقيقة المواقف وحسن نوايا السياسات الأردنية. فالمعيار هو المصالح الوطنية، بل المهمة الواجبة ان تبقى صورة الدولة ناصعة وشفافة أمام الرأي العام الأردني وليس غيره.

[email protected]