صيغ الحل معروفة.. فلِمَ تجاهلها؟

لو أطلّ على منطقتنا من ليس له إلمام مسبق بما يجري فيها لاعتقد ان مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية هي في اول بداياتها. فالأسلوب الذي يجري من خلاله التعامل مع الموضوع. مع موضوع ملتقى تشرين الثاني في انابولس. ومع الجدل الفلسطيني الاسرائيلي حول "اتفاق مبادئ" او "إعلان نوايا" او "بيان سياسي عام" كمدخل للقاء, يؤكد لكل من لا يعرف الماضي القريب, بأن كل من يتلمس طريقه وكأنه يخوض التجربة للمرة الاولى, وكأنه يبدأ من الصفر.

اضافة اعلان

طبعاً، هذه الصورة هي ابعد ما تكون عن الواقع.. الواقع المعقد المتشابك لما يسمى بعملية السلام، والتي بدأت منذ عدة عقود، ولكن ولأجل التحديد المباشر فإنها بدأت بجد منذ عام 1967 بقبول الدول المعنية مباشرة بالنزاع بقرار مجلس الامن 242. ولو عدنا لما ابعد من ذلك لوجدنا ان الامم المتحدة كانت قد اقرت قرارات, وثبتت مرجعيات لحل النزاع وذيوله منذ عام 1949.

إذن ما معنى هذا الجدل الحاد؟ والبحث المحموم عن اتفاق اطار او اتفاق مبادئ, ليحمله الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي الى لقاء الخريف، وما معنى تضخيم الامر, وستة لقاءات بين عباس واولمرت حتى الآن, والمزيد منها فيما بعد, وزيارات متكررة لوزيرة الخارجية الاميركية للمنطقة والمزيد منها لاحقاً، وزف البشائر للعالم المُنتظر بأن "الزعيمان" عباس واولمرت اصدرا الاوامر لفريقي التفاوض بمباشرة عملية البحث عن اطار التفاوض المفقود, والاعلان عن تشكيل وفد فلسطيني رفيع المستوى برئاسة رئيس الوزراء الاسبق احمد قريع, وبدعم من خبراء ومحامين وقانونيين لتولي المهمة الجليلة.. ما معنى كل ذلك بعد ان كانت عملية السلام قد توصلت الى عشرات الاتفاقات, وإعلانات النوايا, والمبادئ, وبعد العديد من احتفالات وعواصم العالم الاخرى, وألقت بها اسرائيل كلها في سلات النفايات تباعاً.

أين اذن قرارات الامم المتحدة, وأين مرجعية ومؤتمر سلام مدريد, وأين أوسلو, وأوسلو واحد, واوسلو اثنان, وأين اتفاقات واشنطن والقاهرة وشرم الشيخ, وأين حصيلة مفاوضات مستمرة منذ عدة عقود لم تفرز سوى تكريس الاحتلال والاستيطان الاستعماري وطمس الحقوق وإذلال الناس وقهرهم وقتلهم كما لم يُعرف له سوابق كثيرة في التاريخ.

منذ اكثر من ستين سنة وضعت الامم المتحدة الاسس الكافية والكفيلة بحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بقرارها الذي امر بعودتهم وتعويضهم. أليس هذا هو الحل البديهي والقرار العادل لإنصاف من طرد من ارضه ووطنه وبيته بالقوة.

ومنذ اكثر من اربعين سنة قررت الامم المتحدة بإجماع الدول الاعضاء في مجلس الامن بمن بينهم الولايات المتحدة بموجب القرار 242 انهاء النزاع بقبول العرب بإسرائيل كما كانت في 4 حزيران 1967 مقابل تخليها عن الاراضي التي احتلتها في حربها العدوانية ذلك العام.

إذن أسس التسوية معرفة, ومعروفة, وراسخة في صميم القانون الدولي. فلماذا تجاهلها ولماذا هذا الدفن الجماعي للرؤوس في الرمال. لماذا يستمر البحث عما هو موجود ومعروف ويصفعنا واقعه في وجوهنا كل يوم.

كل ما يسمّى قضايا المرحلة النهائية مغطى بالكامل ببنود القرار 242 وغيره من عشرات القرارات اللاحقة وذات الصلة, والتي حكمت بعدم شرعية الاستيطان وعدم شرعية جدار الفصل العنصري, وعدم شرعية الاحتلال وتهويد الارض واستعمارها وحرمان أهلها من حريتهم واستقلالهم.

في ظل وجود احكام قانونية قاطعة, وصيغ جاهزة لحل النزاع, ما معنى استمرار المسرحية وهدر السنين في تفاوض عبثي لا يهدف سوى منح اسرائيل الوقت لمواصلة تنفيذ مخططاتها على الارض ريثما لا يبقى للعرب ما يتفاوضون عليه او يطالبون به.

لم يكن القرار 242 قراراً منصفاً ولا عادلاً ولا متوازناً ومع ذلك قبل به العرب كأساس لإنهاء النزاع والتسوية.

قبل العرب بقرار تنازل لإسرائيل عن 87 في المائة من فلسطين بينما لم يعط لها قرار التقسيم اكثر من 56 في المائة. قَبِلَ العرب الاعتراف بوجود اسرائيل كحقيقة قائمة في حدود حزيران 1967 مقابل انهاء حالة الحرب وانسحاب اسرائيل من كل الاراضي العربية التي احتلتها في تلك الحرب- الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية والجولان وسيناء. ولكن اسرائيل اخذت من القرار ما يلائمها اي الاعتراف وتثبيت الحدود وألقت بالباقي في سلة النفايات. فلا هي انسحبت بل بدأت تبني المستوطنات الاستعمارية لتثبيت احتلالها للابد، وهي ضمت القدس والجولان وهي خلقت وقائع جديدة على الارض وما تزال.

لِمَ هذا التوغل المستمر في متاهات التفاوض العقيم? ولِمَ البحث عن الصيغ المبهمة والمسألة في غاية البساطة. هنالك احتلال مرفوض من قبل القانون الدولي يجب ان ينتهي وذلك يشمل كل قضايا المرحلة النهائية.

ولكن الحقيقة القاسية التي لا يجرؤ "المجتمع الدولي" على مواجهتها وهي ان اسرائيل مستثناة من كل تبعات القانون الدولي والتزاماته واستحقاقاته. ولم يسبق ان تحدت دولة عضو في منظمة الامم المتحدة قرارات المنظمة وأحكامها كما فعلت اسرائيل دون ان تخشى محاسبة او ان تواجه عواقب. وهذا الحزم الذي نراه عندما تخرج دولة عربية عن جادة الصواب ولو مرة واحدة, وتتعرض لأقصى العقوبات والحروب لا تتوقع اسرائيل اي شيء منه، فهي مستثناة ومحصنة ضد اية عواقب، وهي ايضا ندرَ ان تعرضت للوم او التأنيب الكلامي على كل انتهاكاتها الفظيعة للقوانين والمواثيق والاعراف الدولية.

لا بدّ من ملاحظة أخيرة، اسرائيل لا تتفاوض كما هو شأن التفاوض, بقصد التوصل لتسويات او حلول. هي تتفاوض لتخفيض سقف مطالب خصومها العرب فتأخذ من اي اتفاق ما يلائمها وتلقي بالباقي، اي بالتزامها تجاه الطرف الآخر. تماماً كما فعلت بالنسبة للقرار 242 وغيره. فمن حل وسط الى حل وسط للحل الوسط الى الوصول الى الصفر.

لم يبقَ من فلسطين اكثر من 10 في المائة ويبدو ان ذلك ليس كافياً بعد لإشباع الجشع الاسرائيلي بالرغم من وجود من يلهث وراء ذلك, وراء البقايا المجزأة المقطعة الاوصال التي لا يقام عليها دولة ولا كيان. ولكن غياب الارادة الدولية والعربية هما ما يُطلق لإسرائيل العنان لتفرض ما تريد, ولتمضي في تنفيذ مخططاتها بلا هوادة او مبالاة.