ضد الانقلاب التركي وضد الانتقام والبطش

منذ اللحظة الأولى كنت ضد المحاولة الانقلابية في تركيا، ليس لأنني مؤيد للرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، بل لأنني أؤمن بالحكم المدني وضد عسكرة الدولة، وتجارب الانقلابات العسكرية في تركيا وفي دول العالم وبالأخص العالم العربي يعقبها تصفيات وحمامات من الدم تعصف بالبلد ويذهب ضحيتها الشعب.اضافة اعلان
وكنت أشعر بأن زمن الانقلابات قد ولى في تركيا، وأن حزب العدالة والتنمية يحكم سيطرته، وهو ليس حزباً طارئاً، وإنما جذوره شعبية ومجتمعية واستئصاله أمر صعب حتى لو كان الانقلاب من قادة الجيش.
وكشفت الساعة الأولى من محاولة الانقلاب أن زعماء "حركة التمرد العسكرية" وهي التسمية الأصح  بنظري، لا يحكمون سيطرتهم على الوضع، وهم ليسوا الأكثرية بين قادة الجيش، ولا تؤازرهم القوى الأمنية من الشرطة والأمن والمخابرات، ولا يوجد ترتيب مع قادة أحزاب المعارضة أو الشارع، وما أضعفهم وأنهى أحلامهم بالسلطة أن الرئيس أردوغان حر طليق وكذلك رئيس الوزراء، وهو ما دفع بعض المحللين والمراقبين السياسيين والعسكريين الى الترويج والاعتقاد بأن ما حدث "مسرحية" دبرها أردوغان، أو "حركة تمرد" كان يعلم بتفاصيلها وغض النظر عنها لتمضي وتكون فرصته للانقضاض عليهم والبطش بهم، ويتساءل الذين يتبنون نظرية المسرحية أو المؤامرة كيف تترك الطائرة التي يستقلها أردوغان تسرح وتمرح بالجو وتهبط بإسطنبول دون أن تقصفها طائرات الـ F16 التي كانت مع الانقلابيين وكانت ترصدها؟!
باعتقادي أن ما حدث كان انقلاباً محدوداً أو حركة تمرد لبعض قيادات الجيش باءت بالفشل، وهي حركة ليست منظمة ومحبوكة التفاصيل، ولا يمكن مقارنتها بالانقلابات العسكرية السابقة في تركيا، والسبب لا يعود لشخصية أردوغان الشعبية فقط، لكن الأهم أن حركة الانقلابات لم تعد مقبولة مجتمعياً وسياسياً في تركيا، ولا يمكن الترحيب الدولي بها سريعاً وإعطاؤها "شيكاً على بياض" حينما تبدأ، فالمواقف الدولية المترقبة والحذرة والمراوغة تراجعت بعد ساعات.
نجح أردوغان بالإمساك بالسلطة بقوة وعزز حضوره الشعبي كزعيم لا تهزمه الدبابات ويسانده الشعب، واستغل حركة الانقلاب الفاشلة للبدء بحملة تطهير ضد خصومه السياسيين، وخاصة بعد اتهامه الزعيم الإسلامي فتح الله غولن بأنه وراء الانقلاب وطالب أميركا بتسليمه.
المعلومات الأولية عن حملة التطهير في تركيا لا توحي بأن الأمر محصور بمجموعة من قادة الجيش المتورطين بمحاولة الانقلاب، بل إن اعتقال الآلاف من العسكريين والمدنيين والقضاة، وطرد الآلاف مثلهم من وظائفهم يؤكد بأن أردوغان يستخدم ورقة الانقلاب ذريعة للقضاء على مناوئيه مرة واحدة والى الأبد.
بالتأكيد لن يقدم أردوغان للمتورطين بالانقلاب أوسمة ويستقبلهم بالورود، وسيزج بهم بالسجون وسيخضعهم للمحاكمة، غير أن ما يحدث يشي بغياب العدالة وحكم القانون، وسيطرة نزعة الانتقام، فمتى استطاع أن يجمع كل أدلة الإدانة بحق الآلاف ممن اعتقلهم وسرّحهم من أعمالهم؟
يرى أردوغان أن إحباطه لحركة الانقلاب يعطيه تفويضاً شعبياً بالبطش بخصومه وحتى تعليق أعواد المشانق لهم، والتراجع عن وقف عقوبة الإعدام بتركيا، ولا يلتفت بأن حركة الانقلاب تثبت من جانب آخر أن الاستئثار بالسلطة والمضي في بناء حقبة الحكم "الأردوغاني" يصنع ناقمين عليه، ورافضين لسلطته التي لا تقبل شركاء حتى لو كانوا من حزب العدالة والتنمية.
أردوغان لاعب سيرك ماهر يقفز عن الحواجز، ويصالح خصوم الأمس مثل إسرائيل ليعزز قوته، ويغازل إيران ويدعو للتحالف معها، ويصم آذانه عن الاستماع لصوت الأوروبيين المنتقد وينتشي بنصره، وهذا كله لا يسعفه بتثبيت حكم مطلق، فالمتهم الأول بالانقلاب غولن زعيم حركة الخدمة له جذوره وامتداداته العابرة لتركيا وفي كثير من دول العالم وسيظل يقضّ مضجعه.
الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا ألقى بظلاله العميقة في العالم، وعزز الانقسام بين أنصار الإسلام السياسي وخصومهم، وأنعش حوارات ومواقف مخجلة في وسائل التواصل الاجتماعي، وعرّى كثيرا من المواقف التي لا تتورع عن تأييد العسكر والتخلي عن مبادئها الداعية للدولة المدنية فقط لأنهم يكرهون أردوغان، أو على النقيض هؤلاء الذين يحبون أردوغان ويدعونه لسفك الدماء لتثبيت حكمه حتى على جماجم شعبه.