ضريبة أن تكون وزيرا للمالية

سلامة الدرعاوي

بمقدور أي رئيس وزراء مكلف أن يأتي بأي شخص ويسلمه حقيبة وزاريّة قبل موعد القسم بساعة على أقل تقدير، وهذا حدث في حالات كثيرة لا حصر لها في معظم الحقائب الوزاريّة.اضافة اعلان
لكن الأمر مختلف جدا بالنسبة لحقيبة وزارة الماليّة التي في العادة يتصعب على الرئيس المكلف اختيار شخص لتولي هذه الحقيبة التي تتشابك أعمالها مع كُلّ وزارات وهيئات الدولة بلا استثناء، فقد يتأخر تشكيل الوزارة لأيام لانه لا يوجد شخص يقبل مباشرة أن يكون وزيراً للماليّة خاصة في دولة مثل الأردن، حيث التحديات المباشرة على الخزينة لا تنتهي أبداً.
ان تكون وزيرا للماليّة في الأردن يعني انك في حالة تشابك يومي مع كافة الزملاء في مجلس الوزراء الذي يعتقد كُلّ وزير ان وزارته هي أساس النمُوّ والازدهار في الدولة، وبالتالي لا بد من ان تتوفر له مخصصات لوزارته بالكامل، لا بل وزيادة عليها لتلبية أحلام او أهداف ما يتطلع إليه الوزير، لذلك اعتدنا في الأردن ان يكون وزير الماليّة شخصاً غير مرغوب التعاطي معه من قبل الوزراء لأنه دائما ما يقول لهم "لا" ، فهو لا يستطيع ولا يقدر ان يوفر أموالا إضافية لأي وزارة خارج مخصصاتها التي أقرت في قانون الموازنة العامة للدولة، وهذا الأمر لا يعجب طبعا السادة الوزراء الذين يتحججون في العادة بعدم تعاون وزير الماليّة في مساعدتهم ماليّاً لتحقيق أهداف وزاراتهم.
ان تكون وزيراً للماليّة فإن ذلك يلقي عليك مسؤولية كبيرة في إدارة المؤسسات الماليّة الجبائية التي تتبع للوزارة مثل ضريبة الدخل والجمارك والأراضي، فهذه المؤسسات معنية بتوفير 350 مليون دينار شهرياً لدفع رواتب العاملين في القطاع العام والمتقاعدين.
أن تكون وزيراً للماليّة يعني أنك مطالب بالتفاوض مع المانحين ومؤسسات الإقراض الدوليّ لتوفير أكثر من 200 مليون دينار شهريا لاستكمال نفقات الحكومة الشهرية التي تبلغ ما يقارب الـ580 مليون دينار.
أن تكون وزيرا للمالية يعني أنك المسؤول الأول والأخير عن السياسة الماليّة في الدولة وضبط عجز الموازنة والسيطرة عليه ضمن حدود آمنة متجاوزا بذلك أي تداعيات طارئة او أمنية، فالأمور بخواتيمها.
أن تكون وزيراً للمالية يعني أنك المسؤول عن إدارة ملف العلاقة التعاقدية مع صندوق النقد الدوليّ والذي يرتبط مع الأردن باتفاقيات تصحيح هيكلي والذي يتطلب من كُل الوزارات سلوكيات اقتصادية ومالية محددة يجب الوصول إليها ضمن ما هو متفق عليه مع الصندوق، وبالتالي فإن وزارة المالية عليها أيضًا وظيفة رقابية على السلوك التالي لكافة مؤسسات وهيئات الدولة.
ان تكون وزيرا للماليّة يعني انك ستكون في حالة " قصف" مستمرة من قبل القوى النافذة في المجتمع التي تسعى للحفاظ على مكتسباتها السابقة والتي تقاوم أي عملية إصلاحية اقتصادية تخترق مكتسباتهم في الشرعية او حتى تقترب منها، حينها سرعان ما تبادر تلك القوى المتحالفة مع مسؤولين قائمين وسابقين واعلاميين ونواب وابواق لا حصر لها بتشويه سمعة الوزير والتعرض له شخصيا ولاغتيال شخصيته، وتبخيس أعماله، لا بل يطال الأمر باتهامه لأنه ضد الاستثمار والاقتصاد والنمو.
طبعاً هؤلاء غالبيتهم من فئة المتهربين ضريبيّاً او جمركيا او من عليهم أموال للخزينة ولا يريدون دفعها، او لهم امتيازات ماليّة نتيجة أنشطة رسميّة او شبه رسميّة، او ممن يمارسون التهريب عبر المعابر الحدودية وغيرها، كلهم جميعاً بلا استثناء يتحولون إلى عصابات علنية مهمتها تشويه عمل وزير الماليّة ووضعه تحت الضغط النفسي المستمر حتى يتراجع في عملية الإصلاح الاقتصادي كما هو حاصل الآن في الضريبة والعمل يجري كذلك في الجمارك.
وزير الماليّة مثل "خبز الشعير" مأكول مذموم، لم يخلص من تذمر واستياء زملائه من الوزراء، ولم يسلم من المكتسبين والمهربين والمتهربين وكل من تطاله يد الإصلاح الماليّ، لكن في النهاية الحكم على وزير الماليّة لا يكون بالنظر إلى تلك الابواق، بقدر ما ينظر إلى الموازنة والعجز وتوفير المخصصات الداخلية والخارجية المطلوبة، وتحقيق الاستقرار ومواجهة التحديات الطارئة بفاعلية عالية إضافة إلى مستوى العلاقة الماليّة مع المؤسسات الدولية، وهذا في رأيي الشخصي يسجل للوزير الدكتور محمد العسعس انه أدار الملف المالي للدولة بأحسن ما يمكن إدارته في ظل محدودية الموارد والتحديات التي تحيط بالاقتصاد الوطني داخليا وخارجيا، وواجه صعوبات وضغوطات في اقسى ظرف ممكن ان يواجهه أي وزير مالية.