ضياع في "الأزاريطة"!

للإسكندرية رائحة امرأة تخرج من الماء، وتحتفي ببهائها كلما عن على بالها أن تستعيد ذاكرة متخمة بوجوه التاريخ. لها وجه النساء اللواتي علقن على الموانئ الكثيرة، ينتظرن من يلوحن لهم بورود الوصول الأخير إلى شاطئ مشتهى، ولها كل الوجوه؛ روما، أثينا.. وأفريقيا حاضرة كذلك في الأزقة العتيقة.اضافة اعلان
هكذا ندخل المدينة الكبيرة من بوابتها الشرقية، قادمين براً من القاهرة، وما بين المدينتين فروقات لا يمكن أن تخطئها العين، المكان، المعمار، الناس، والهواء.
كان شباط يتهيأ للدخول، بينما الدفء ينشر ثوبه على المدينة المستلقية على حافة الماء بمنارتها التي لم تهرم بعد، رغم عقود من الوقوف هناك.
كنا هناك؛ كليوبترا وأنطونيو وأفلاطون، ومفلح العدوان وحسين دعسة.. وأنا. نحاول أن نمد خطانا في حي الأزاريطة بالمدينة، وأن نقول ما نشتهي من حكايات عن حكماء مروا من هنا، أو أقاموا هنا.
في منتصف المدينة تقريبا، يقع الحي العريق؛ الأزاريطة، وفيما أنت تتجول في شوارعه لا بد أن تحني هامتك خجلا من التاريخ المحفور بكل زاوية فيه. المباني التراثية بطابعها الروماني واليوناني، والواجهات الحجرية أو الرخامية العتيقة. ترى من كان يقف هنا قبل ألفي عام.. من كان ذلك الشخص، وأين يأوي اليوم؟
في البال أنني لم أكن واعيا لجميع الأزاريطة. استقبلتها بجميع ما في المحب من ورق غائب عن القراءة. كنت عالقا بين مسافتين، وبحسابات الفقد، لذلك لم أدرك جمال الواجهات التي مررت بها، فأنا أعبر مدينة أزورها للمرة الأولى.
خمسة أيام كاملة. خمسة أيام من الضياع في الأزاريطة. لم أحسب أي جزء منها «ضياعا في سوهو»، كما فعل صاحبنا كولن ويلسون حين اختبر ضياعه الخاص في الحي اللندني، فقد حاول أن يجعله ضياعا فكريا، بينما بالنسبة إليّ كان ضياعا وجدانيا. كنت أحاول أن أقيم الصلة بين حضارات عديدة مرت من هنا. أحاول أن أمد خيطا رفيعا يقبض على علاقة الإنسان بأخيه، حين يتحلل من جميع ما قد يربطه بالعلاقات البدائية. قيصر كان هنا، وكليوبترا أرادت خلودا تاما. وآخرون مروا كذلك، وطبعوا المدينة بنزقهم، أو استعاروا وشمها لأرواحهم المتعبة.
الضياع في «الأزاريطة»، لا يمكن أن يشابهه أي ضياع آخر، سوى أن تكون في حلم جميل، ولا يقاطعك أحد أو شيء. الضياع في «الأزاريطة»، يعني أن تزور البحر، وترجع منه عطشانا، أن تعانق روما من أطرافها الأربعة، لكنك لا تجد وجه مؤسسها «رومولوس»، بينما شارع الخشخاني ماثل أمامك بلا أي ريب أو شك، لتستفتح به تاريخا غاب عمن يقطعونه يوميا بحثا عن الرزق.
«الأزاريطة» لا يتوقف عن الحياة، وهو يمنحك دائما فرصة لأن تكون أنت، بكل ما فيك من قوة أو ضعف أو تناقضات، لذلك يمنحك قائمة طويلة من المطاعم: السلطان أيوب، كاما، شرمب آيلاند، كشك عربي، نسيم بغداد، بيتزا روما، كريب كلوب، العوافي الدمشقي، ماكيما، فيروز، كاليكا، مولانا، دكان سمك، سكويس، بياستا، الراية الدمشقية، دكان حواوشي، وغيرها الكثير.
لكنك تتوق إلى «محطة رمل». تتوق إلى أن تقف في المكان في الذي شاهدته في عشرات الأفلام. في وسط المدينة تماما، كما لو أنها كانت فلتة من فلتات الزمان حين أسس عباقرة المدينة لفضاء أوروبي لم يكن قبل ذلك التاريخ. هي فلورنسا الغافية على كتف الإسكندرية. هنا تطمئن المدينة إلى أهلها: كل الأمور الاعتيادية التي لا يمكن إلا أن تسير الحياة بها. وسعد زغلول قريب جدا، وعمر أفندي الذي يشرع بابه لأي طارق يهوى أن يطرح الأسئلة.
محطة الرمل، تختصر تاريخ عصر عباس حلمي الثاني، وبالأحرى، تاريخ أسرة عائلة محمد علي، ثم الخديوي توفيق.. فالملك فاروق.
«الأزاريطة» تحتضن كل ذلك التاريخ لكي تقدمه لنا طازجا. تشبك وجوه الماضي السحيق مع وجوه أبنائها الحاليين، وتشرع أسئلة كثيرة على فضاءات مبهمة.
لن نمتلك الإجابات، فهي من وحدها من تحتفظ بسر من ذهبوا إلى الموت بوداعة طفل.. وملأوا صفحات الكتب بحكايات لا تنام.