طاولة مستديرة حول الموروث الاجتماعي وحداثة التعليم

منال أحمد كشت

ما يزال الحديث في تغيير المناهج يثير الكثير من الجدل داخل الأوساط التربوية والثقافية والنقابية والحزبية ومؤسسات المجتمع المدني بكافة أطيافه وسط انتقادات واعتراضات على التغييرات التي يدّعي البعض انها عملت على استبدال الموروث الديني من مبدأ مهاجمة الدين، ما استفز المجتمع، وبين المحاولات التنويرية التي تدعو الى تطوير مهارات التفكير والتحليل والابتعاد عن التلقين والحشو الزائد مع التركيز على القيم الحضارية والانفتاح والوسطية في الاسلام.اضافة اعلان
ان عدم وجود دراسة منهجية علمية شاملة والاكتفاء بمحاولة ارتجالية لتعديلات سطحية لم ترق الى تغيير المضمون بما يتناسب مع أهداف التنمية البشرية، في الوقت الذي كان ينبغي فيه تقديم إعادة صياغة للمناهج بطريقة تمكن الطلبة من اكتساب المهارات والقدرات التي تؤهلهم للعيش في العالم المتغير ضمن قيم العدالة والمواطنة والوسطية والحرية والتشاركية وتقبل الاخر واحترام حقوق الانسان، هو احد اسباب العجز عن الدفاع عن التغييرات التي حدثت مؤخرا في المناهج.
لهذا فإن ما يبدو منطقيا الان هو تشكيل لجنة متخصصة في تطوير المناهج ، لتشمل وزراء حاليين وسابقين، ورجال دين مستنيرين وتقليديين، ومعلمين ومعلمات ومدراء مدارس حكومية وخاصة، وفنانين واقتصاديين وقانونيين وفلاسفة يمثلون مكونات المجتمع بتنوعه العرقي والديني والثقافي والسياسي. وأن يتم تكليف هذه اللجنة بفحص المناهج ؛ وتحديدا مساقات اللغة العربية والتاريخ والتربية الوطنية والتربية الدينية من الصف الأول وحتى التوجيهي، بتكامل أفقي وعمودي مما يضمن توحيد وتكامل المفاهيم الواردة في المناهج.
نتوقع من هذه اللجنة الخروج من الصندوق لتتمكن من رؤية المشهد بطريقة أكثر شمولية وأقل إستفزازية ضمن خطة إستراتيجية تستند على فلسفة التعليم وقيمه وأهدافه ونتاجاته، من خلال وقفة مجتمعية تشمل كافة الأطياف للقيام بمراجعة عميقة للمناهج. إن ما نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى هو أن نقف على مسافة متساوية من جميع الأطراف وأن ندعو الجميع الى حوار طاولة مستديرة تطرح فيه الأفكار كافة وتناقش وتغربل للخروج بصيغة توافقية وطنية الهدف الأساسي منها تطوير المناهج بما يتناسب مع المخرجات التي نريد والتي تتوافق مع الرؤية الواردة في الأوراق النقاشية الملكية.
إن الامتناع او القصور عن إحداث التغيير الجذري في المناهج اليوم من شأنه منع نشر القيم التنويرية القائمة على المواطنة واحترام التعددية والتنوع، وهي أساسات الدولة المدنية والديمقراطية. ما سيعمل على تعميق الفجوة المعرفية والقيمية بين أغلبية تخرجها المدارس الحكومية  وفق مناهج وزارة التربية، وأقلية في مدارس خاصة توفر خيار التعلم وفق مناهج أجنبية تشمل برامج وأنشطة تنمي الفكر النقدي والحس الفني الابداعي ضمن استراتيجيات تعلم حديثة، ما سيعمل على تشجيع الحقد الطبقي وكراهية الآخر وتعزيز مفهوم عدم العدالة المجتمعية.
المناهج الأجنبية لا تعزز بالضرورة جذور الانتماء والتفاعل مع الموروث الثقافي المعاصر مما  يخلق مواطنين بعيدين عن واقع الموروث المجتمعي القائم، فهم يتمتعون بحرية فكرية تجعلهم أغرابا داخل مجتمعاتهم ما قد يدفعهم الى الهجرة إلى واقع اجتماعي وقيم عمل مشابه لأفكارهم وتلبي طموحاتهم وتتوافق مع معتقداتهم. في حين يتمتع خريجو المدارس الحكومية بلحمة مجتمعية أوثق بسبب ارتباطهم بالأسرة والمجتمع على الرغم من وجود قصور في بناء الشخصية المدنية، بسبب غياب الفلسفة والفنون والفكر النقدي والتنويري المستقى من الموروث العربي الاسلامي في المناهج التي درسوها، ما يحرمهم فرصة الإندماج في بيئات مجتمعية وعمل مختلفة.
إن استمرار الصراع المتواجد بين الخطاب المدني العلماني القائم على فصل الدين عن السياسة وتوفير الحد الأدنى من حقوق الإنسان، وبين الخطاب الذي يحمله تيار يتحدث باسم الأصالة والموروث الشعبي الديني، من شأنه عرقلة التطوير في العملية التعليمية وفي تحديث المناهج على وجه التحديد. من الممكن معالجة تلك الإشكالية من خلال مداولات لجنة شاملة لتحديث المنظومة التعليمية، بحيث تؤسس تدريجيا لتوطين نماذج ناجحة من التجارب التعليمية الغربية والعربية، ما يفرز جيلا بهوية أكثر أصالة، قادرا على التعاطي مع متطلبات العيش في ظل ثورة صناعية رابعة مرتقبة.